“الأحواز”.. قضية عربية منسية عمدا !! (1-2)
صحيح أن الأمم الكبيرة تتذكر كي تحيا، باعتبار أن التذكر يقظة، واليقظة حالة من عودة الوعي إلى أصول القضايا وجذورها.. وبرغم أن الأمة العربية كانت على حق في كل قضاياها “المغتصبة”، ولكنه حق افتقد الوعي أحيانا، وافتقد الإرادة أحيانا، وافتقد الوعي والإرادة أحيانا كثيرة.. وهذه السطور ربما كانت التفاتة ضرورية إلى قضية عربية لا تزال منسية عمدا !!
ومن المفارقات التاريخية أن يتوجه الحاج أمين الحسيني مفتي القدس، واستجابة لنصيحة عدد من رموز القوى السياسية والوطنية العربية في خريف عام 1924 إلى حاكم إمارة عربستان على الضفة الشرقية للخليج العربي، الشيخ “خزعل الكعبي” طلبا للدعم المادي والمعنوي لنضال الشعب الفلسطيني في مواجهة ما يجرى تنفيذه على الأرض من غزو طوفان المهاجرين اليهود، تمهيدا لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، عقب إعلان وعد بلفور، ثم سقوط القدس تحت الاحتلال البريطاني، ودخول القوات البريطانية بقيادة “أدموند اللنبي”، وقيام عصبة الأمم في 24/ 7/ 1922 بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين..
وفي مدينة المحمرة – عاصمة عربستان وقتئذ – يتكفل الأمير العربي “خزعل الكعبي” بمطالب مفتي القدس، ومساندة الحركة الوطنية الفلسطينية في رفض الانتداب البريطاني، وإلغاء وعد بلفور، واستقلال فلسطين.. وبعد أقل من عام من عودة مفتي القدس، وموجات الهجرة تتدفق على ربوع وطنه، ومستعمراتها الاستيطانية تقوم وتتوسع كل يوم، كانت إمارة “عربستان” العربية تسقط بدورها تحت الاحتلال الفارسي 1925 !!
وتصدرت القضية الفلسطينية، هموم الوطن العربي، وتراجعت قضية عربستان إلى هامش النسيان، وأصبحت قضية عربية منسية عمدا، وبعد أن أدرجت في عام 1964 على جدول أعمال القمة العربية بالقاهرة، وصدرت قرارات تساند حقوق الإمارة العربية “عربستان” مساندة كاملة، وقررت القمة التوعية بقضية عربستان في المناهج الدراسية العربية، وبرامج الإعلام العربي، ثم تدخلت المصالح والأهداف السياسية، وحركة توازنات القوى في الإقليم – لمصلحة إيران بالطبع – وأسدلت الستارة العربية تقريبا على قضية احتلال دولة عربية !!
وفيما أظن – وأعتقد أن تصوري صحيح – أن غالبية الشعوب العربية لا تعرف شيئا عن تاريخ وجغرافية الإمارة العربية المحتلة، قبل وبعد تحالف شاه إيران “رضا خان بهلوي” مع مصالح بريطانيا العظمى، وقيام قوة عسكرية بريطانية باختطاف الأمير خزعل وتسليمه إلى إيران ليتم إعدامه، ثم شنت إيران في 20/ 4/ 1925 حملة عسكرية على إمارة عربستان، انتهت باحتلال وطن عربي يحمل اسما تاريخيا “الأحواز” ..
وكان البريطانيون، قد سبق لهم أن دعموا شاه إيران بفتوى تسمح له باحتلال الأحواز، حينما أفتى 18 عالما شيعيا صفويا من ذوي الأصول الفارسية ممن كانوا يقيمون في النجف وكربلاء، ومن بينهم المرجع الشيعي ميرزا النائيني، والمرجع الشيعي الصفوي أبو الحسن الأصفهاني، بضرورة الخروج عن طاعة الأمير خزعل الكعبي حاكم إمارة عربستان، فهو “كافر” ولا يجب على الشعب العربي الأحوازي المسلم الشيعي أن يخرج معه ضد الشاه رضا خان بهلوي “المسلم”، وجاءت الفتوى مقدمة لشرعنه الاحتلال الفارسي لدولة عربية قوية !!
والشاهد تاريخيا.. أن السياسة البريطانية لعبت دورا محوريا في احتلال واغتصاب “فلسطين” في قلب الوطن العربي، و”الأحواز” على البوابة الشرقية للوطن العربي، وبامتداد الخليج العربي، ومن بندر عباس شرقا إلى المحمرة غربا، وبمحاذاة مدينة البصرة العراقية، وفي مشهد من أغرب مشاهد التاريخ العربي، يكفي في حد ذاته لشرح وتصوير الطريقة التي كانت تتقرر بها مصائر العرب !!
ومن المصادفات التاريخية أيضا أن ترتبط قضية احتلال واغتصاب أراض عربية (فلسطين ، والأحواز) بالمزاعم والادعاءات نفسها تقريبا التي تستند إلى مواريث من الماضي لإيقاظ “وعي اليهود” و “وعي الفرس” وقد التقيا في زمن الاتفاق على تقسيم إرث الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وأن تبدأ وتتصل وتتداعى فصول القصة من أولها وإلى العقد المستحكمة فيها، وحتى النهايات المقدرة لها، في سياق متشابه: من إختلاط الديانات مع السياسات.. وصدام الحقوق مع الأسلحة.. وصراع الماضي مع مطامع ومقاصد وأحلام الهيمنة !!
وإذا كانت المسألة اليهودية والأحلام الصهيونية قد ظهرت على مسرح الأحداث في الثلث الأول للقرن التاسع عشر، بأوهام العودة إلى أرض الميعاد، وبدعم الفكر الإستراتيجي الأوروبي – النافذ وقتها – بقيام الدولة الحاجز، العازلة، وأن ينقطع العالم العربي إلى نصفين.. فإن “الفرس” أيضا قد ظهروا على مسرح الأحداث في “الأحواز” كقوة أجنبية لا تربطها بالإقليم العربي أية صلة، سواء من الناحية الجغرافية ـ وتفصلها عن إيران سلسلة جبال زاجروس من الشمال – أو من الناحية التاريخية أو الحضارية أو الاجتماعية، ولكن لعبت المطامع دورها في أرض الأحواز التي تشكل ممرا تجاريا استراتيجيا يربط بين الوطن العربي من جهة، وبين آسيا الصغرى من الجهة الأخرى، وتميزت بازدهار التجارة، وخصوبة الأراضي، وتشعب الأنهار فيها – خمسة أنهار كبرى، وتفرعاتها من الروافد النهرية الصغيرة ـ وهي أول دولة عربية ظهر داخل أراضيها النفط وبكميات كبيرة منذ عام 1908 باكتشاف حقل مسجد سليمان، وتضم حاليا أكثر من 85 % من ثروات المنتج القومي لإيران، وعلى سبيل المثال نجد أن 95 % من البترول و90 % من الغاز و40 % من الحبوب، ومن مجمل المنتج الإيراني، داخل أراضي الإقليم العربي الأحوازي..
وإذا كان الإيرانيون يجادلون في أحقيتهم التاريخية في أرض الأحواز بمقولة: إن حكام فارس قد احتلوا هذه المنطقة لفترة من الزمن، فإن سكان عربستان يردون عليهم بأن اليونان والرومان والعرب حكموا فارس ثلاثة عشر قرنا، وقد استمرت السيطرة العربية على بلاد فارس آمادا طويلة، فهل ادعى أحد عروبتها؟! والمطامع لا تستند إلى ماض من سنوات الاحتلال، ولكن حقيقة المقاصد والأهداف كشفت عنها مذكرات الشاه رضا خان بهلوي بقوله: ” لقد فكرت كثيرا قبل إقدامي على اقتحام أكبر معقل يفصل بين فارس والعراق، فوجدت أنه من الضروري القضاء على أمير عربستان..” والقصد بالطبع بوابة الدول العربية من جهة الشرق !! وحتى شاه إيران الأخير “محمد رضا بهلوي” كان له رأي لا يخفيه في العرب، وهو يشعر بعقدة استعلاء غريبة تصور له أنه وريث إيوان كسرى، أمام قبائل من البدو الرحل، يعرفون فقط التعامل مع قطعان الغنم!!
فتحي خطاب
المصدر:العرب اليوم