إيران وتسييس التشيع
الأديان والمذاهب في جوهرها تحمل قيماً روحية غير مختلف عليها، غير أن آفتها في تسييسها وأدلجتها، لأن التسييس يجعلها وسيلة في يد القلة التي تسعى بها للوصول إلى السلطة والثروة، ومن هنا تأتي الجناية على الإنسان، كما تأتي الجناية على الأديان.
والتسييس موجود في كل الأديان، فالمسيحية، وهي ديانة المحبة والرحمة، عندما انتقلت إلى الغرب، تسيست وأصبحت صليبية فجة. واليهودية، وهي ديانة الشريعة والقوانين عندما انتقلت إلى الغرب، تسيست وأصبحت صهيونية عنصرية، والشيء ذاته بالنسبة للإسلام، وهو الدين الذي جمع إلى الرحمة والمحبة القوانين والشرائع، فهو عندما أدلجه بعض المسلمين، أصبح ‘قاعدة’ متطرفة في جانب، أو ولاية فقيه قومية شعوبية في جانب آخر.
وفي هذه العجالة سأتناول أدلجة الإسلام في إيران، وتسييس التشيع على يد رجال الدين الذين وصلوا إلى السلطة في طهران عام 1979، من أجل إعادة إنتاج الهيمنة الإيرانية على مقدرات المنطقة، كحلم قديم يخرج للعلن مرة بثوب إمبراطوري، وأخرى بمسحوح دينية، مصحوبة بشعارات مخادعة، وبسمات مخاتلة.
وقد دأبت طهران منذ مجيء النظام الذي أسسه الراحل الخميني على توظيف التشيع بشكل لا يخدم التشيع في أصل نشأته العربية، ولا يخدم الشيعة العرب، وإن تبدى أن إيران تمثل سنداً لهم، من أجل إحداث هوة تتسع بين مكونات المجتمعات العربية لتمكين حكام طهران من الدخول إلى داخل النسيج السياسي والاجتماعي العربي، وبالشكل الذي لا يخدم الشيعة العرب بقدر ما يخدم المصالح العليا للنظام في طهران.
وحينها لم تكن مقولات ‘تحرير كربلاء’، و’الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد’، و’تصدير الثورة الإسلامية’، التي أطلقها الخميني إلا تجسيداً فاضحاً لمحاولات لا تزال إلى اليوم محمومة لاختراق النسيج الاجتماعي العربي، عن طريق ‘حصان التشيع′ الذي برعت طهران في توظيفه بشكل متقن، على مدى عقود طويلة، للوصول إلى ما وصلت إليه اليوم من خلخلة طائفية وسط مجتمعاتنا العربية، أدت إلى أن يصرح مسؤولون كبار في طهران مؤخراً بأن حدودهم تمتد إلى سواحل المتوسط، وأن لبنان هو خط الدفاع الأول لإيران، ناهيك عن موطئ القدم الجديد لنظام طهران في اليمن، والمحاولات الإيرانية المحمومة لاختراق مصر وبلدان المغرب العربي والسودان.
وتقوم التكتيكات الإيرانية في هذا الجانب على التركيز على الشيعة العرب في محيطهم العربي السني، حيث تبث أقلام إيران في الصحافة العربية حكايات لا تنتهي عن استهداف الشيعة العرب، لا لشيء إلا لزيادة ارتباطهم بإيران وفصلهم عن جسدهم العربي. لا يعني ذلك بالطبع انكار وجود أعمال مرفوضة يتعرض لها بعض الشيعة العرب، غير أن ذلك لا ينفي حقيقة ان الأنظمة الموالية لطهران، وطهران من ورائها شاركت بشكل أو بآخر في عمليات الاستهداف التي تخدم في المآلات الأخيرة توجهات طهران في بث الفرقة بين خيوط النسيج العربي الواحد.
كلنا بالطبع نعرف كيف انتزعت إيران شيعة لبنان من محيطهم العربي، وجعلت عليهم إلى اليوم من يربط مصيرهم بها لا بإخوتهم في العروبة في لبنان، والأمر ذاته يتكرر اليوم في اليمن، حيث المذهب الزيدي المتسامح الذي تحاول طهران ربط اتباعه بها، على الرغم من أن إمام المذهب زيداً عليه السلام شكل موقفاً تاريخياً حاسماً ضد أولئك الذين أرادوا فرقة الأمة في القديم، والذين تحاول طهران اليوم بكل جهد إحياء طروحاتهم المدمرة. هذا عدا عن محاولات طهران الدخول الى مصر والمغرب العربي والسودان من باب التصوف.
حدثني كاتب سوداني أن إيران عرضت على الخرطوم تجديد بعض الأضرحة الصوفية والزوايا في السودان، على أن تكون لها كلمة في تحديد المسؤولين عن إدارة هذه الأضرحة أو الزوايا، وهو الأمر الذي رفض في ما يبدو من قبل السودانيين. وفي هذا الشأن كذلك، لا تكف طهران عن طرق باب السياحة الدينية في مصر، بهدف استعادة ما تعتبره طهران ‘حوزة’ شيعية ممثلة في الأزهر ومقام الحسين، على اعتبار أن بقية المسلمين ليس لهم نصيب من هذه المقامات، التي تريد إيران أن تفعل بها ما فعلته بمقام ‘السيدة زينب’ في سوريا، بعد أن حولته إلى رمز طائفي سياسي، انطلقت منه معظم دعوات التدخل الإيراني ضد الشعب السوري وثورته، بعد أن كان مقاماً روحياً يجسد فكرة تآخي السوريين ومحبتهم لأهل البيت.
ومع استمرار إيران في تسييسها للتشيع، يجادل الكثير في أن النظام الإيراني نظام لاديني وأقرب إلى العلمانية، على الرغم من أن ‘الإمامة’ في فكر ‘ولاية الفقيه’ تمثل جوهر الإسلام، حيث كفر الخميني من لم يؤمن بها في أكثر من كتاب من كتبه. والقول بعلمانية النظام في طهران غير صحيح، لأن العلمانية تجعل الدين برمته قضية شخصية، ومسألة روحية، من دون أن تسعى بشكل مباشر إلى تسييسه، لكن إيران أصلاً تقوم على الاستفادة السياسية من الدين، أو من التشيع بشكل خاص، من دون أن يكون همها خدمة التشيع، أو منفعة الشيعة الذين تقدمهم اليوم قرابين على محارق حروبها الطائفية الشكل، القومية الجوهر في العراق وسوريا ولبنان وغيرها من البلدان المنكوبة بتدخلات ‘ولي أمر المسلمين’ في طهران.
هناك ـ قطعاً – فرق كبير بين العلمانية التي هي فكرة أن يفصل الدين عن الدولة، وبين ما تقوم به طهران من توظيف سياسي مقيت للإسلام في شقه الشيعي ضد مصالح العرب الدولية والإقليمية، في ظل سكوت مريع من كثير من المراجع الشيعية العربية التي ترى بشكل واضح أن إيران توظف الكثير من الشيعة العرب لدعم مصالحها على حساب المصالح العربية، من دون أن تحاول هذه المراجع إيقاف هذه المهزلة.
بعد سقوط بغداد في يد الأمريكيين عام 2003، تم لطهران ما أردات من إزاحة نظام عربي، كان يمثل حاجزاً بينها وبين طموحاتها الإقليمية، ثم بعد الانسحاب الأمريكي تمكنت طهران من إحكام سيطرتها على مقدرات الشعب العراقي، لدرجة تمكنت فيها من إيصال رجالها إلى مراكز عليا حساسة في العراق، ومنحت الحكومة العراقية الجنسية لعشرات آلاف الإيرانيين الذين بدأوا يسهمون في رسم خارطة العراق السياسية والمذهبية، على الشكل الذي تريده طهران.
كل ذلك من دون أن نتحدث عن فرق الموت الإيرانية، والمليشيات الطائفية التي أنشأتها إيران في العراق، والتي اندمجت في الجيش العراقي الجديد الذي يخوض اليوم حرباً ضد أبناء شعبه، بحجة مكافحة داعش والإرهاب والتكفيريين، وغيرها من التسميات التي اعتدنا عليها من منابر إعلامية عربية اللسان إيرانية الهوى، بل إن نظام العراق الجديد أصبح بدوره أحد أحصنة طهران التي يسرت لها كثيراً من الاختراق للجسد العربي، بكل أسف.
واليوم تأتي الأخبار عن استنساخ إيران لتجربة حزب الله اللبناني في كل من العراق وسوريا والبحرين والكويت والسعودية واليمن، على أساس طائفي يحمل في طياته تصوراً شعوبياً للعرب وحضارتهم وتاريخهم ورسالتهم، ويظهر إيران على أنها المستقبل المشرق والأمل اليوتوبياوي القادم، والمعول عليه في محاربة الإرهاب الذي تعني به إيران كل من يقاوم محاولاتها المستميتة لإقامة هلال قومي إيراني في مسوح دينية شيعية لا علاقة لها بقيم التشيع الحقيقية، ولا بمصلحة الشيعة العرب، الذين نجحت طهران ـ للأسف – في فرض قيادات موالية لها على غالبيتهم، بشكل أصبحت فيه مهمة انقاذ التشيع والشيعة من إيران أمراً ملحاً من قبل العقلاء داخل إيران وخارجها.
ولضمان أن تسير خطة طهران بشكل جيد، من دون أن يتطرق إليها أحد، أعدت على مدى سنوات كتيبة من الإعلاميين الذين دستهم في مفاصل مؤسسات إعلامية عربية كبرى لترهيب كل من ينتقد سياساتها الطائفية، والتهمة جاهزة بالطبع لدى كبار طهاة المطبخ الإعلامي الإيراني، وهي اليوم ‘تكفيري إرهابي طائفي’. وقبل عناق الشيطان الأكبر والولي الفقيه الأخير على صفيحة برنامج طهران النووي، كانت التهمة هي العمالة لقوى الاستكبار العالمي والشيطان الأكبر والبترودولار. وقد نجح هؤلاء الإعلاميون في اسكات الكثير من المثقفين اليوم خوفاً من تهمة الطائفية التي تمارسها طهران ورجالها بشكل فاضح ثم ترمي بها الآخرين. هذا العبث الذي تمارسه طهران في نسيجنا العربي لن يقف إلا إذا أوقفنا نحن الاستهتار بأنفسنا، ذلك الاستهتار الذي سوغ لإيران وغيرها جعل منطقتنا وشعوبنا حقل تجارب كبير للتسويق لمشاريع لا علاقة لنا بها ولا تخدم مصالحنا في شيء.
المصدر : صحيفة القدس العربي