إيران تشتري الذهب التركي بالليرة التركية للالتفاف على العقوبات
يوم الاثنين الماضي قال وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي لوكالة «مهر»،
إن بلاده على استعداد للبدء في مفاوضات مع الولايات المتحدة، إذا ما أعطى المرشد الأعلى
الضوء الأخضر لذلك.
وإلى لبنان تصل الوفود الرسمية الإيرانية حاملة العروض بصفقات مائية وكهربائية،
معتبرة أنه بقدرة لبنان تجاوز العقوبات الدولية المفروضة على إيران، وتوقيع صفقات يتحمل
هو وزرها، فالمهم أن تبدو إيران أنها لا تعبأ بالعقوبات وأن لديها دائما «زبائن»، ويستفيض
السفير الإيراني لدى لبنان غضنفر ركن أبادي وهو يتنقل من قناة تلفزيونية إلى أخرى ليؤكد
أن العقوبات مجرد حبر على ورق، وأن الشعب الإيراني يطلب العدالة ويريد أن يفرضها على
العالم.
لكن في الحقيقة، يعرف قادة إيران أن تصدير الثورة لا يأتي مجانيا، حتى الانتماء
لولاية الفقيه ليس مجانيا، وإن كان تسلم المال يبرر بصفة «الطاهر»، ذلك لأن الشعب الإيراني
يعاني من ضائقة اقتصادية ماحقة، وبسبب النظام الإيراني يعاني الناس العاديون في جميع
أنحاء المنطقة، ويعاني لبنان بالذات من أزمة اقتصادية قد تقضي عليه إذا ما استمر على
تمزقه ما بين إيران وسوريا، فهو باختصار يدفع ثمن سياسات النظام الإيراني فوق أرضه.
وتحاول القيادة الإيرانية عمدا إخفاء الحقيقة عن المحنة الاقتصادية التي تعيشها
البلاد من خلال نشر تقارير تعطي بشكل مصطنع صورة وردية للاقتصاد الإيراني وذلك من أجل
المحافظة على هدوء الشعب. وقد قدم ما لا يقل عن ثلاث شخصيات إيرانية أمثلة عن ذلك في
غضون الأشهر القليلة الماضية:
أولا – ادعى بيان صادر عن حاكم البنك المركزي محمود بهماني أن عائدات الصادرات
الإيرانية السنوية بلغت 150 مليار دولار، مضيفا أن ذلك مكن إيران من التغلب على المشكلات
التي سببتها العقوبات المفروضة من قبل الغرب، دونما الحاجة إلى استخدام «احتياطيات
البلاد الضخمة» من العملات الأجنبية.
ثانيا – ناقش الرئيس محمود أحمدي نجاد «النظام المصرفي عن طريق التنمية على
الصعيد الوطني»، مدعيا أن احتياطيات إيران من العملة الصعبة والذهب تتجاوز المائة مليار
دولار.
ثالثا – أعلن وزير النفط رستم قاسمي، أن «الزيادة في صادرات النفط الإيراني
تشير إلى فشل العقوبات المفروضة من الغرب» – وكالة «فارس» في الرابع من الشهر الماضي.
لكن، هل تملك إيران في الواقع احتياطيا ضخما من العملات الأجنبية والذهب؟ من
الصعب معرفة الحجم الحقيقي لعائدات الصادرات الإيرانية وموجودات العملات الأجنبية والذهب
التي هي في متناول القيادة الإيرانية. فالتصريحات الإيرانية الرسمية بهذا الخصوص من
الصعب أن يعول عليها كليا، وحسب ما تلاحظه المحكمة الوطنية العليا لمراجعة الحسابات،
فليس هناك من إشراف فعلي أو من رصد للمدفوعات والتحويلات من العملة الأجنبية أو من
احتياطي الذهب. وكان نائب رئيس الوزراء التركي علي باباجان قد كشف أمام البرلمان التركي
في 24 من الشهر الماضي، عن السبب في الزيادة الكبرى في صادرات سبائك الذهب التركية
إلى إيران. قال إن الإيرانيين يشترون الذهب التركي بالليرة التركية التي أودعوها في
حساباتهم المصرفية. وأضاف باباجان: «ولأن إيران لا تستطيع تحويل المدفوعات بالعملة
الأجنبية إلى مصارفها، فإنها تشتري الذهب بالليرة التركية، وبعدها تنقله إلى إيران.
لا أعرف كيف يتم شحنه إلى إيران، المهم، أن تصدير الذهب إلى إيران هو الثمن الذي ندفعه
مقابل شرائنا الغاز الطبيعي منها».
ويبدو أن ما تبقى من العملات الأجنبية واحتياطي الذهب يستخدم لتغطية العجز في
ميزانية 2012 – 2013 الذي يصل إلى ما لا يقل عن 44 مليار دولار، على ما يقوله رئيس
اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى غلام رضا مصباحي مرادم، فهو يشكك فيما إذا كان لدى
البلاد ما يكفي من النقد الأجنبي واحتياطي الذهب لتتعامل في وقت واحد مع عجز هائل في
الميزانية ومع المشكلات الاقتصادية الحادة نتيجة العقوبات.
إن عدم الكشف عن الحقيقة يكشف بدوره عن الخلافات بين السياسيين الإيرانيين.
منذ يوليو (تموز) 2012 تبين أن أعضاء كبارا في النظام الإيراني بمن فيهم نائب رئيس
المجلس محمود رضا باهومار، ووزير الصناعة والتعدين والتجارة مهدي غضنفري، لم يدعيا
فقط أن إيران تدبر موازنة العملات الأجنبية، بل إن الحكومة والبنك المركزي قادران على
ضخ ما يكفي من العملات الأجنبية لضمان العمل كالمعتاد من دون أي انقطاع للواردات الأجنبية!
هذه المكابرة لا تخفي حقيقة أن العملة الإيرانية في حالة حرجة بسبب النقص الحاد
في أسواق العملات الأجنبية. فخلال فترة أسبوعين خسر الريال ثلثي قيمته في السوق الحرة
واستمر في الهبوط، وأصبح واضحا ما أشار إليه مصباحي مرادم من أن البنك المركزي توقف
عن ضخ العملة الأجنبية في السوق الإيرانية الحرة. هذه الخطوة الجذرية أدت إلى الانخفاض
الحاد في قيمة الريال.
وفي محاولة لصد الانتقادات لسياسته، أعلن البنك المركزي الإيراني أنه خلال الأشهر
الممتدة من مارس (آذار) حتى سبتمبر (أيلول) ضخ 25 مليار دولار بالعملة الأجنبية في
السوق الحرة لمنع الاضطرابات، وضمان استمرار الواردات. ومع ذلك، ووفقا للمستوردين الإيرانيين،
لا معنى لإعلان البنك المركزي، ففي الحقيقة لم يحول العملات الصعبة المطلوبة لتنفيذ
صفقات الاستيراد، على الرغم من أن السلطات وافقت على تراخيص الاستيراد منذ أكثر من
سبعة أشهر في مارس الماضي.
وفي الواقع، سببت العقوبات المفروضة ضربة شديدة وواسعة النطاق للتجارة الخارجية
الإيرانية. على سبيل المثال فإن التصدير السنوي من النفط الإيراني إلى الصين والهند
وكوريا الجنوبية يجب أن يوفر ما بين 30 و35 مليار دولار، لكن نتيجة للعقوبات المالية
المفروضة، فإن إيران ليست فقط غير قادرة على الاستفادة من عائدات صادراتها إلى هذه
الدول، بل إنها غير قادرة أيضا على تحصيل ديونها المتراكمة على تلك الدول والمقدرة
بـ45 مليار دولار.
بدأ النقص في العملات الأجنبية في إيران منذ شهر سبتمبر الماضي يترك تأثيرا
مباشرا على حياة الإيرانيين. انخفض الريال بنسبة تزيد على الستين في المائة، واضطرت
السلطات إلى اتخاذ خطوات أولية إضافية تؤثر تأثيرا خطيرا على العلاقات التجارية الخارجية
الإيرانية، فالسلع الأساسية هي إما أكثر تكلفة وإما غير متوفرة.
المظاهر الأولية للسياسة الاقتصادية الإيرانية الجديدة والتي يمكن وصفها بالسياسة
العشوائية لمواجهة تدهور الأوضاع الاقتصادية، أدت إلى حظر تصدير 57 من المنتجات الصناعية،
ووصلت قيمة الواردات غير الضرورية المحظورة إلى أكثر من 16 مليار دولار سنويا، أي ما
يعادل ربع الواردات الإيرانية السنوية.
ومع ذلك، يكرر الرئيس الإيراني وحاكم البنك المركزي أن مجموع العملات الأجنبية
واحتياطي الذهب وارتفاع الدخل من الإنتاج يبلغ 250 مليار دولار، في حين يؤكد الواقع
أن الاحتياطي الإيراني تضاءل إلى حد كبير (30 إلى 40 مليار دولار) وليس 100 مليار كما
أعلن أحمدي نجاد، إلى درجة أن النظام يساوره القلق حول استخدام ما تبقى من هذا الرصيد،
والذي من شأنه أن يصل بالبلاد إلى حالة الإفلاس، خصوصا أنها تقف على حافة الهاوية الآن.
يضاف إلى ذلك أن الوضع من وجهة نظر النظام الإيراني أسوأ من ذلك بكثير، إذا
أخذنا العقوبات بالحسبان، فإيران غير قادرة على جمع أو استخدام عائدات النفط أو صادراتها،
ولا تفرض السلطات الإيرانية الحظر على الواردات غير الضرورية فقط، بل تمتنع أيضا عن
إصدار التراخيص لضمان مبلغ 50 مليار دولار قيمة واردات أساسية للسوق المحلية وللسكان.
الوضع الحالي بشكل عام يعني أن إيران تمر بأخطر المراحل منذ الثورة الإسلامية
عام 1979، إن كان بالنسبة إلى وضعها الداخلي، أو إلى ما استثمرته في استراتيجيتها الخارجية،
من هنا جس نبض وزير الخارجية الإيراني في تصريحه «المغازل» لأميركا، فهي إما أن تجنح
إلى المفاوضات أو إلى ما اعتادت على ممارسته!
المصدر: جريدة الشرق الأوسط