حتى لا ننسى الأحواز المحتلّة
شاركت منتصف شهر يونيو/ حزيران الماضي في مؤتمر أقامته حركة النضال العربي لتحرير الأحواز في لاهاي الهولندية، وكانت الفرصة الأولى بالنسبة لي كي أحتكّ مباشرة بالأحوازيين الذين اقتصرت علاقاتي بهم عن بعد، ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي خصوصاً، وأذكر أنه بعد عودتي من سوريا تلقّيت الكثير من الرسائل عبر الإنترنت من الأحوازيين في الداخل والخارج، تشيد بموقفي وتدعمني وتدعوني إلى مناصرة قضيتهم العادلة والمنسيّة التي يتجاهلها الكثيرون من دعاة حقوق الإنسان في العالم عموماً، وفي الوطن العربي والإسلامي بصفة أخص.
على مدار ثلاثة أيام قضيتها بين الأحوازيين، لمست فيهم أصالتهم ومعدنهم العربي والإسلامي النفيس، وتأكّدت لدرجة اليقين أن المشروع الصفوي فشل فشلاً ذريعاً منذ 1925 من محو ولو نسبة ضئيلة من هوية الأحوازيين، وهذا ما يشبه كثيراً شأن الجزائر التي احتلها الاستعمار الفرنسي عام 1830 وعلى مدار 132 سنة من محاولات حثيثة لمسخ الهوية الجزائرية التي تجمع بين العرب والأمازيغ تحت قبّة الإسلام، لم تتمكن فرنسا من حلمها بأن يتحوّل الجزائري إلى فرنسي.
لقد كان الأحوازيون يتحدّثون بلغة عربية سليمة، تصيّدت علّني أسجّل عليهم أخطاء في النحو أو الصرف، إلا أن ذلك لم يحدث، رغم أن الكثير منهم عاشوا أغلب أعمارهم في الأحواز تحت احتلال إيراني يمارس شتى أنواع العنصرية الفارسية في حق الدين واللغة قبل الأرض والعرض، ومن غادر الأحواز فهو يوجد بالغرب ولم يعش إلا القليل منهم في البلاد العربية الأخرى.
كما وجدتهم يقدّسون كل القيم الإسلامية وعلى رأسهم الصحابة، ويحبّون أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنهم جميعاً، ولا يسمحون لأي كان أن يفكّر مجرّد تفكير في التطاول عليهم، رغم عمليات التشييع على الطريقة الصفوية التي انتهجتها إيران في الأحواز منذ احتلالها، ولكن كل ذلك باء بالفشل الذريع، بل حتى الشيعة الأصليون من الأحواز خرجوا من عمامتها السوداء، وكثير منهم صاروا من أهل السنّة ولم تفلح الخمينية في تحقيق ما تصبو إليه من محو للهوية العربية والإسلامية للأحواز.
لقد وجدت نساء ورجالاً، شيوخاً وكهولاً وشباباً، يتنفّسون قضية بلادهم المحتلّة، التي تناساها العالم رغم عدالتها، ورغم ما يجري فيها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية. حقيقة لم أستغرب من إيمان هؤلاء بقضيتهم وكنت قد شاهدت أحوازيين وهم يشنقون في مشانق إيرانية نصبت لهم بالشوارع على مرأى كل الناس، وكانوا يستقبلون الموت بصدور رحبة، بل يودّعون أرضهم بابتسامات حفرت أثرها في قلبي وقلوب الملايين من البشر الذين شاهدوا الصور أو الفيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد أذهلني الأحوازيون بمدى حبّهم للوطن العربي كلّه، وتعلّقهم بعروبتهم ودينهم ومذهبهم السنّي بالنسبة لأهل السنّة منهم، بل حتى شيعتهم في عمومهم لا يؤمنون إلا بخيار تقرير مصيرهم وتحرير بلادهم من المحتلّ الصفوي الغاشم رغم المشانق التي تطال رقابهم أيضاً. وفي هذا السياق يثبت شأن إعدام إيران للشيعة الأحواز، أن هذا المستعمر هو عنصري وقومي فارسي فقط، وأما التشيّع فيستعمله كمجرد وسيلة لتحقيق إمبراطوريته المفقودة. لو كانت إيران تقدس آل البيت رضي الله عنهم كما تزعم، وأنها دولة أنشئت لأجل حماية أتباعهم وشيعتهم كما تدّعي، ما ذبحت شيعة الأحواز الذين يطالبون باستقلال وطنهم، وما ذبحت بعض الشيعة العرب في العراق الذين يناهضون دولة الملالي في بلادهم.
عندما تجلس مع أحوازي فإنك تحسّ أنه يختزل بين عينيه إيمانه بقضيته العادلة وإصراره على النصر مهما دفع من ثمن، كما تلمس حزنهم العميق على الدول العربية والإسلامية التي لم تنتصر لهم ولا حملت قضيتهم في المحافل الدولية، بل تجد حسرتهم التي لا حدود لها على الدول التي تقول إنها معادية للمشروع الصفوي الإيراني، وهي لا تقيم حتى ندوة للتعريف بقضية الأحواز، وهي قضية لو تحرّكت على المستوى الدولي وتلقّت الدعم لقصمت ظهر إيران في عقر دارها، حيث إن 82 بالمئة من النفط الذي تسيطر عليه إيران هو مستخرج من أرض الأحواز المحتلّة، فضلاً عن الثروات الباطنية والحيوانية الأخرى.
إن مشروع إيران الذي تنفّذه هو قومي فارسي بحت، لذلك من يواجهونه بسبب قومية عربية فإن الأحواز من العرب، وإن كانوا لسبب ديني فالأحوازيون مسلمون أغلبيتهم من أهل السنّة، وإن كان الأمر يتعلّق بحقوق البشر والعدالة الدولية فإن الأحواز محتلّة وإيران تمارس شتى الجرائم بحق الإنسان الأحوازي. وإن كان الأمر يتعلق بالتراث التاريخي، فإن الصفويين يعملون على محو أي آثار تدل على الوجود العربي في الأحواز. هكذا كان منطق الأحوازيين في مؤتمر حركة النضال العربي لتحرير الأحواز، الذين يدفعون من قوت صغارهم، ويبذلون كل ما يقدرون عليه من جهود شخصية لأجل قضيتهم، ولا تدعمهم فيها أيّ دولة عربية أو غربية، فكثيروهم يزعمون أنهم يعادون إيران ولا يوجد أدنى دعم في قضايا محرجة لها من حيث عدالتها أو من حيث ما تقترفه من تجاوزات خطيرة ضد القانون الدولي.
من خلال ما سمعته من الأحوازيين في لاهاي، أو الباحثين العرب وغير العرب الذين جاؤوا من دول مختلفة، تأكدت يقيناً أنه لا يمكن أبداً التصدي للمشروع الإيراني الصفوي إلا بدعم معلن ورسمي للأحوازيين في قضيتهم العادلة. وأكثر من ذلك تيقنت أن من يدّعون العداء لإيران يكذبون وسوف نصدّقهم فقط إن رأيناهم يوماً يرافعون لصالح تحرير الأحواز في المحافل الدولية.
لقد كنت ضمن اللجنة القانونية وحقوق الإنسان، وقد تألّمت كثيراً عندما ناقشنا محور طرح القضية الأحوازية على المحافل الدولية، وقلت حينها إنه من العار على الدول العربية والإسلامية عدم إدراجها إلى يومنا هذا قضية الأحواز في الأمم المتحدة من خلال لجنة تصفية الاستعمار ولا حتى الجامعة العربية ناقشت قضية هذا البلد الذي رزئ بمحتل عنصري فارسي منذ أكثر من ثمانين عاماً.
إن المشروع الإيراني هو أخطر ما يواجهه العالم الإسلامي، والسكوت عنه سيزيده قوة وطغياناً، ولا يمكن التصدّي له بشعارات جوفاء بل بأفعال ملموسة، وأبرز ما يمكن الاعتماد عليه هو الداخل الإيراني الذي يمكن تفكيك شفرته بسهولة تامّة، كما أن السكوت عن قضايا المستعمرات التي تسيطر عليها إيران هو في حدّ ذاته أكبر دعم لها، وعلى رأس هذه المستعمرات قضية الأحواز المنسيّة على المستوى السياسي، حيث لا توجد دولة تتبنّى القضية بصفة رسمية، وعلى المستوى الإعلامي، حيث لم أر سوى بعض القنوات الخاصة وعلى رأسها وصال وصفا ممن ينفضون غبار النسيان على قضية لا تختلف أهمّيتها عن فلسطين وسوريا والعراق وغيرها.
تأخّرت كثيراً في الحديث عن القضية الأحوازية بسبب ازدحام القضايا العربية والإسلامية العادلة، ولكن حان أوان التحرّك الفاعل والفعّال على المستوى الشعبي والعربي والإسلامي والدولي لتحرير الشعب الأحوازي من همجية عنصرية وطائفية، مارست أبشع ما يمكن تخيّله من الجرائم بحق الإنسان والإنسانية، والسكوت عن القضية الأحوازية هو جريمة أخرى سنحاسب عليها جميعاً أمام الأجيال القادمة من أمتنا، ولن يغفروا لنا أبداً ونحن في زمن تحوّل فيه العالم إلى قرية صغيرة، وللأسف ما تزال هناك قضية منسية اسمها الأحواز المحتل، وإن لم نحرّرها أو نضع لبنات قوية في طريق تحريرها، نستحق كل ما يحدث لنا من دمار الطغاة وخراب الغزاة وهلاك البغاة.
الدكتور أنور مالك
المصدر: الخليج اونلاين