مقتطفات من مذكراتي في السجن
آنذاك كان يتراوح عدد السجناء في سجن كارون بين ٤ الى ٥ آلاف نزيل ويشكل العرب ٩٠ بالمائة وما تبقى من غير العرب من مختلف القوميات. كان السجن عبارة عن مدينة صغيرة على مساحة ١٥ ألف متر مربع ويمكن للفرد ان يرى فيه كل اصناف البشر وتجد اختلافا واسعا بين التعاملات الاجتماعية ويمكن للمتابع من خلال مشاهداته استقراء ما يجري بشكل أوسع على مستوى الأحواز.
في عام ٢٠١٠م نقلوني مع بعض الأسرى الاحوازيين من قسم ٦ المخصص للسجناء السياسيين إلى قسم ٢ المخصص للسطو المسلح من اجل ان يمارسوا مزيد من الضغط النفسي والجسدي. كما كتبت مسبقا عن هذا القسم حيث معروفا للجميع بسوء السمعة وقلة الإمكانات وفيه ازدحام شديد ويسكنه ما يقارب ٤٠٠ سجين يتوزعون بين ٦ غرف. يعتبر هذا الحدث بمثابة التجربة الأولى لي ان اجلس مع سجناء سطو المسلح رغم وجود سجناء غير سياسيين في قسم ٦. في الحقيقة لن أكن اعرف كيف اتعامل مع هؤلاء وكيف يواجهونني اولئك السجناء. بعد الدخول وفي باب القسم طلب مني مسؤولي السجن الذهاب الى غرفة ٢.
في الساحة وعند باب الغرفة جاءني شيبة وبيده عصى يلقب ب” أبو كليفه التميمي” وكان يسأل السجناء الجدد واحد تلو الآخر” اشبايگ؟ أي يعني ماذا سرقت؟ وعادة ما يسأل السجناء القدامى السجناء الجدد شبه هذا السؤال في مدخل الاقسام ويكون السؤال حسب نوعية اتهامات سجناء القسم على سبيل المثال قتل، مخدرات، سرقة وغيرها من التهم. أجبته ” كضيت الحرامي” أي امسكت بالسارق”، قال لي اجابتك فيها “إن”. دار وجهه مرة أخرى وسألني “عمي انت شنهي اتهامك” أي ما اتهامك؟ هكذا كرر السؤال ابو كليفة بنعومة واحترام. قلت له انا سجين سياسي، قال لي لمن؟، قلت له من أجل القضية الأحوازية.
حينها انقلب أبو كليفه تماما وتبدلت تعابيره وعانقني واستقبلني بحفاوة وكأنه يعرفني من زمان بعيد. وحينها سألني لماذا لم يأخذوك إلى قسم ٦ المخصص للسياسيين، قلت له؛ كنت هناك و لكن اردوا لنا المزيد من الأذية، ثم جاءني سجين الآخر باسم ع .ح و كان ايضاً من السجناء القدامى في السجن و رحب بي. ثم اختاروا لي أفضل سرير في الغرفة. للعلم في تلك الظروف الصعبة الوصول إلى هذا السرير في الطابق الأول، يحتاج إلى سنوات من الانتظار والاسبقية واتذكر هناك البعض من السجناء مر على تواجدهم أكثر من سنتين بينما ينامون على الأرض بانتظار الحصول على سرير في الطابق الثالث.
قال أبو كليفه وهو يلوح بالعصاء: “كل القسم وجميع الغرف في خدمتكم ومنعني ان أشارك في الغسل أو الطبخ أو تنظيف الغرفة أو حتى ان اشترى احتياجاتي على حسابي. قلت له هذا غير صحيح، قال هذا اقل ما يمكننا تقديمه من اجل انسان دخل السجن من اجل شعبه. وحكى لي أبو كليفه فيما بعد، أنه عاصر احداث أربعاء السوداء عام ١٩٧٩ وشارك فيها انذاك.
أكرموني هؤلاء النزلاء بكل ما لديهم من إمكانات متواضعة. وعندما كنت اتكلم في الغرفة عن القضية الأحوازية وتاريخ الأحواز، يخيم السكوت على الغرفة وتتجه الأنظار الىّ وحينها لمست مدى اهتمام شعبنا بقضيته وحينها أحسست بكل وجودي وجوارحي وأدركت انني لم أضحى عبثاً وقلت في نفسي هؤلاء النزلاء لم يعرفوني، لكنهم وضعوني على رؤوسهم. وأدركت ان السبب الذي جعلهم يقدمون لي كل ما يملكون ليس الا إيمانهم بقضيتهم وحبهم للأسير الأحوازي بشكل عام. هكذا مرت عليّ ٤٥ يوماً ثم أعيدوني مسؤولين السجن إلى قسم ٦.
في عام ٢٠١١م، كشفت ادارة سجن شيبان خطة هروب السجناء. وحينها استدعت إدارة سجن الاحتلال الإيراني كل الأسرى الاحوازيين المحكوم عليهم بأحكام من عشر سنوات وأكثر بشكل فجائي ودون سابق إنذار. من ثم كبلت قوات الامن أيدي وأرجل السجناء بأسلاك المطاطية وقاموا بتعصيب اعيننا جميعا.
كبلوا ايادي السجناء للخلف في عنف وقيدوا الأرجل بأصفاد خاصة بالأقدام وعصبوا أعينهم وقيدوهم بسلاسل. كان يوما عصيبا حيث لا نعرف ماذا يجري وإلى أين ينقلوننا. وآخذونا إلى مكان عرف فيما بعد إنه سجن كارون قسم ٣ المخصص لمتهمي القتل.
اتذكر استقبلنا عشرات السجناء كل واحد منهم يدعونا إلى غرفته وكنت اعرف في هذا القسم المرحوم سيد موسى الفاضلي والمرحوم جبار العبيداوي حيث أُجري فيما بعد حد القصاص عليهم وكانوا في مقدمة المرحبين في باب القسم وكنت على رغبة في ذهاب إلى غرفتهم إلا أن جاءني مجموعة من الشاب لم اعرفهم سابقاً وأصروا بالذهاب معهم إلى غرفة ٦ حيث خصصوا لي أفضل سرير في الغرفة. ربما يكون مصطلح أفضل سرير مضحكا لمن لا يعرفون عن السجون في الاحواز لكن من دخل السجن يعرف كم سنة يحتاج السجين للوصول إلى السرير في الطابق الأول في تلك الزنزانات المزدحمة حيث لا يوجد مكان كافي للنوم على أرضية الزنزانة.
نعم استقبلوني بينما انني لم اعرف أسمائهم واهلهم ولم التقي بهم مرة واحدة في حياتي. الحقيقة إنهم لم يستقبلوني كسجين لا ابدا، بل انهم استقبلوني كسجين سياسي احوازي، سجين ضحى من أجل القضية الاحوازية. كان عملهم تقديرا للتضحية وناتج عن إيمانهم فيها وليس لي انا شخصيا. وبعد السؤال عن أسمائهم عرفت ان جميع هؤلاء كانوا من قضاء الفلاحية وهم معروفون بالشجاعة والكرم العربي، وهكذا عاملوني مثلما عاملوني السجناء في قسم ٢ بل أكثر وبقيت معهم ٤٩ يوماً. تلك الفترة بالنسبة لي كانت مثل التنزه داخل السجن. نعم هكذا كان تعامل أغلبية سجناء غير السياسيين الاحوازيين مع اخوتهم من السجناء السياسيين الاحوازيين. وكانوا يبذلون جهودا ان يدخلون علينا في الأعياد والمناسبات في قسم ٦ بالزي العربي إذا أمكن لأجل معايدة السجناء السياسيين وتقديم الاحترام. لا يزال اسمع صدى الأهازيج التي ينشدوها في ذلك القسم ولا تزال اسمع أسماء الشهداء الذي كان يرددونها في اناشيدهم واتذكر قراءة الأشعار الحماسية في تلك اللقاءات.
لم تختصر مكانة الأسرى الأحوازيين على السجناء العاديين بل كنا نتلقى تعاطف ومؤازرة من السجانين الاحوازيين ايضاً. يشكل السجانين الاحوازيين ما يقارب ثلث الموظفين في سجن كارون وكانوا يدعموننا بسبل مختلفة حيث يستغلون جميع الفرص لكي يخففوا علينا الهموم. كان البعض من السجانين الاحوازيين لا يعيرون اي اهتمام للسجناء العاديين، لكن حينما كنا نمر من جنبهم يقومون لنا اجلالاً وتعظيماً بحيث طلبت من بعضهم تجاهلنا خوفاً عليهم ومن أجل أمنهم. ولو كانت تسمح لي الظروف الأمنية لذكرت مواقف كثيرة بالاسم والتاريخ تلك المواقف المشرفة. مرة أخرى أكرر ان احترامهم لنا كان نابعاً من مدى حبهم وإيمانهم بقضيتهم الأحوازية العادلة.
بما انني بقيت في سجني كارون الأحواز وعادل آباد شيراز فترات متساوية في كل واحد ٣ سنوات و٦ أشهر، اذن ذلك يخولني ان أعمل مقارنة عادلة نسبياً في هذا المجال. صراحة عكس ما رأيت من معاملة حسنة ورؤية تقدير واحترام للأسرى الأحوازيين في سجن كارون من قبل السجناء الاخرين باعتبارهم اناس ضحوا من أجل شعبهم، لم ارى ذلك التقدير والاحترام للسجناء السياسيين الفرس من قبل السجناء العاديين في سجن عادل آباد شيراز. الواقع ليس هناك عيبا او خطأ في سجناء السياسيين الفرس بل كان اكثرهم مثقفين ومحترمين ولكن كانت نظرة السجين العادي إليهم عبارة عن انهم ليس الا سجناء نتيجة صراع التيارات والأجنحة المختلفة السياسية من أجل السلطة، حيث لا مصلحة للمواطن الفارسي فيها. لكن رغم ممارسة المآسي على الشعب الاحوازي ورغم وجود ظروف الاحتلال القاسية والتعتيم الاعلامي منذ ٩٤ سنة إلا أنه يزداد وعياً يوماً بعد يوم.
في الأخير اذكر حدث أخبرني به أحد أقاربي خارج السجن وكان من الذين لا يهتمون بي شخصياً ولا بالسياسة ولا بالقضية الأحوازية بشكل عام. قال هذا القريب انه كان في ازمة مالية وذهب إلى أحد البنوك ليأخذ قرضاً ولكنهم قالوا له انهت ميزانية الفرع لإعطاء القروض الى المواطنين. وعندما كان ينوي الخروج من بناية البنك استدعاه أحد مسؤولي البنك وسأله: “هل تعرف فلان غازي لأنكم متشابهان اللقب”، فاجابه: “نعم هذا من أقاربي.” فرد عليه مسؤول البنك وقال له هذا الإنسان سجن من أجل شعبه ووطنه ومن أجل ذلك السجين سوف اطلب لك التماس من المركز لكي نعطيك قرضاً تسدد به احتياجاتك. وتصورت أن يكون أحد أصدقائي الذين يعملون بالمصارف الا انه بعدما اعطاني اسمه، تفاجأت انني لم اعرفه او حتى لم اسمع باسمه من قبل.
الاسير السابق غازي مزهر
المصدر : مركز دراسات دورانتاش