صفقة لوزان..تاريخ من استهداف العرب
ربما ليس صدفة أن الاتفاق الأولي بين إيران والغرب تم توقيعه في فندق البوريفاج في لوزان بسويسرا، وهو نفس المكان الذي شهد توقيع معاهدة إنهاء الخلافة العثمانية عام 1923، المسماة اتفاقية “لوزان الثانية” تمييزا لها عن اتفاقية لوزان الأولى عام 1912 بين إيطاليا والدولة العثمانية، القاضية بانسحاب الأخيرة من ليبيا لصالح إيطاليا.
ولعل في الأمر رمزية ساخرة ومقصودة في الوقت ذاته، سواء باختيار المكان أو موضوع الاتفاق الجديد الذي يفترض أن يشكل محطة مفصلية وفارقة في الصراع ضد الحضارة العربية الإسلامية الذي عمل المشروع الغربي بحربتيه الصهيونية والفارسية على اجتثاثها وبشكل خاص في الأراضي الواقعة بين الفرات والنيل، التي تضم عواصم الحضارة بغداد ودمشق والقاهرة لتضاف إليها صنعاء التي وقعت فعلا في حضن الاستعمار الغربي الإيراني.
المفارقة هنا أن أطراف اتفاقية لوزان الثانية كانت القوى الاستعمارية المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى والإمبراطورية العثمانية التي سموها آنذاك “الرجل المريض” حيث نجد المؤرخ والكاتب التركي قدير مصر أوغلو صاحب كتاب “معاهدة لوزان، انتصار أم خدمة؟!” يصف تلك المعاهدة والموقعين عليها من الجانب العثماني بقوله: “إن الأتراك في توقيع معاهدة لوزان تخلوا عن قيادة المسلمين ورضوا بقطعة صغيرة من الأرض”.
أما أطراف اتفاقية لوزان الثالثة فهم من جهة القوى الاستعمارية الخاسرة اليوم معركتها المصطنعة المسماة الحرب ضد الإرهاب وأبرز فصولها حرب أفغانستان، وفي الجهة المقابلة الرجل الميت إكلينيكيا تقريبا وهو دولة إيران الملالي التي تمددت واستُنزفت فأصبحت كبالون قابل للثقب بحجر صغير.
صحيح أن اتفاق لوزان الجديد يمنح هذا الرجل شبه الميت أكسير حياة -أو علبة سبانخ كما هو الحال في أفلام باباي الكرتونية- لتحيله قوة نووية إقليمية معترفا بها دوليا، وصحيح أنها تمده في الوقت نفسه بالمغذيات المادية اللازمة ليقف على قدميه من خلال رفع العقوبات المادية الدولية الواقعة عليه، ليكمل المهمة بقتله لأسباب النهوض والمقاومة الصاعدة في العالم السني، وذلك من خلال إخضاع المشرق العربي بأكمله للمشروع الغربي الذي لم يكتف بشفط المقدرات، بل إنه يستهدف ما هو أبعد من ذلك بكثير، ونتحدث هنا عن حملة إبادة وتحطيم المجتمعات على الطريقة الطائفية الإيرانية التي نشهدها اليوم في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
غير أن هذا الاتفاق النووي في ظاهره، الاستعماري في فحواه وفحوى بنوده السرية، يغفل حقائق مهمة على الأرض يمكنها أن تجعله حبرا على ورق، مثلما شاخت أطرافه التي أكل الدهر عليها وشرب، وتبدو اليوم أشبه بنمر من ورق.
وصحيح أيضا أن الطرف الإقليمي المستهدَف بهذا الاتفاق -وهو المكون العربي- يبدو ميتا إكلينيكيا هو الآخر، ولكن الواقع يختلف عن الصورة تماما كما هي البعوضة تدمي مقلة الأسد.
فرمزية توقيع الاتفاق النووي الإيراني في نفس الفندق الذي شهد توقيع معاهدة إنهاء الخلافة العثمانية لا تكتمل إلا بتفكيكه عبر تفكيك إيران نفسها، وهو أمر بمقدور الطرف العربي الضعيف -نظريا على الأقل- تحقيقه دون حاجة لحشود أو حروب تأكل الأخضر واليابس.
وبالمقارنة بإيران وعرب اليوم، ربما كانت الدولة العثمانية أثناء توقيع لوزان الأولى والثانية رجلا مريضا كما يزعمون، رغم أن العبارة تنقصها الدقة على ضوء إمكانات شفاء الدولة العثمانية آنذاك، وذلك بالرجوع لخطوات لا تنقصها الحكمة والحذر قام بها السلطان عبد الحميد المحاط وقتها بجمعية الاتحاد والترقي الانقلابية -المهيمنة على مقاليد الأمور آنذاك- إحاطة السوار بالمعصم.
مثل هذا الحال لا ينطبق بالطبع على الدولة الإيرانية اليوم التي لا تستطيع النهوض لأن بذور فنائها التي استحكمت بها مزروعة أساسا بداخلها.. بذور لا يمكنها الخلاص منها دون تغيير عقيدتها المذهبية الاستئصالية التي تستأصل خصومها كما تستأصلها ذاتها سواء بسواء.
أما الطرف العربي الضعيف وقد وصل إلى قاع لا قاع تحته فأمره مختلف، إذ المنحنى في صعود، وذلك بفعل الصمود -حتى الآن على الأقل- في معركتي مقاومة ووعي تصقلان معدنه، يخوضهما على أكثر من جبهة كضمان وحيد للبقاء فإعادة البناء على أسس وقواعد نابعة من داخله، لا مصممة بيد غيره.
ومما يغذي عنصر السخرية في قصة الاتفاق النووي الإيراني اليوم، أنه في الوقت الذي تتوزع فيه مكونات البرنامج النووي الإيراني على أكثر من موقع بإيران من بينها بوشهر حيث المفاعل النووي، وأصفهان حيث مكان إنتاج اليورانيوم، ونطنز وفوردو -قرب قم- حيث يخصب اليورانيوم، يقف الطرف العربي المتفرج على موعد مع أكبر صفقة نووية مربحة في تاريخه.
إيران تبني مفاعلها وقدراتها النووية في أصعب الظروف، والعرب في أفضل السيناريوهات -ولا أقول الحالمة منها- عندما يدعمون المقاومة الأحوازية والبلوشية لتتفكك إيران، يمكنهم أن يكسبوا مفاعلا نوويا بالمجان ألا وهو مفاعل بوشهر المقام في أرض الأحواز العربية والمطل على الخليج العربي في الجهة التي تقابل سواحل الإمارات العربية، وأي حل لمشكلة صداع وكهرباء الخليج -على الأقل- أفضل من هذا، إن لم تسارع القوى الكبرى لتدميره أسوة بالمفاعل النووي العراقي؟
إن العرب بعد أن قدموا كل شيء وخسروا -ماديا وسياسيا على الأقل- كل شيء، آن لهم أن يدركوا أن بقية القصة في نهاية مطافها هي صراع وجود لا أكثر ولا أقل، وأن المركب الذي يعبر مياه منطقتهم المتلاطمة يتسع لراكب واحد لا ثلاثة.
على العرب أن يدركوا أن الخيارات المتاحة محدودة، ومن ضمنها حروب الوكالة، تلك الحرب التي طالما مارسها العرب على مدى قرن من الزمان لحساب غيرهم، فكانت محطتها الأولى صهيل خيولهم صوب القضاء على وجودهم كأمة ومعهم خلافة العثمانيين تحت إمرة عميل المخابرات البريطانية لورانس -الضاحك على العرب- لتصبح معاهدة لوزان الثانية عام 1923 تحصيل حاصل.
أما محطتها الأخيرة فكانت ثورتهم المضادة على ربيع العرب -ورمز تحرر أمة العرب- والتي كانت محصلتها عام 2015 معاهدة لوزان الثالثة ومحصلتها العصف بكيانات قُطرية هزيلة مرسومة بعناية وممهورة بتوقيع سايكس وبيكو.
الحرب ذاتها أي الحرب بالوكالة يمكن أن يقوم بها ثوار -غير مخدوعين كثوار لورانس بالأمس- حيث يصبح بالإمكان -عند تقاسم أعباء التسليح ولعب دور الظهير ليس فقط إزاء الشعوب العربية التي استعمرتها إيران وإسرائيل في العمق العربي، وإنما الشعوب المستعمرة من إيران داخل إيران نفسها- تفكيك الاستعمار الغربي في المنطقة وليس المشروع النووي الإيراني فحسب، وذلك فقط عند إدراك حاجات الشريحتين المستعمَرتين -أعلاه- من الدعم المادي واللوجستي والسياسي.
فتوفر السلاح النوعي -لا الخفيف فقط- يلعب دورا بالغ الأهمية في تسريع حسم صراع تاريخي قدره الأزلي أن ينتصر فيه الطرف الأضعف تسليحا والأقوى عقيدة وبناء معنويا على الخصم المتسلح بكل أسباب القوة المادية.
تلك الإرادة التي إن توفرت لدى الأنظمة مثلما هي حاضرة لدى ثوار اليوم، سيتمكن الجميع من رسم واقع مغاير لما بعد اتفاقيتي لوزان الأولى والثانية اللتين ألغتا وحدتهم كأمة، ولوزان الثالثة المتربصة بوجودهم كأمة ذات إرادة.
جهاد صقر
المصدر:الجزيرة .نت