“الاحواز”.. قضية عربية منسية عمدا !!(2-2)
وفي حقيقة الأمر فإن شواهد التاريخ تسجل عروبة الأحواز، ومنذ سنوات ما قبل الفتوحات الإسلامية، حين نزحت إلى منطقة الأحواز قبائل عربية أخرى آتية من قلب الجزيرة العربية، منها قبائل مالك، وكليب، واستقرت هناك، وعندما قامت الجيوش العربية الإسلامية بفتح هذه المنطقة، شارك السكان العرب معها في القضاء على الهرمزان في سنة 17 هجرية، وطوال عهد الخلافة الأموية ثم العباسية ، وصولا إلى الحكم العثماني، كانت ” الأحواز ” جزءا لا يتجزأ من الأراضي التابعة للخلافة، واستمر الأمر كذلك حتى 1925 وهناك فصول من حقائق التاريخ يرويها المؤرخ الإنجليزي ” لونفريك ” في كتابه ” أربعة قرون من تاريخ العراق ” مسجلا شهادته بالقول ( في أراضي عربستان الزراعية المنبسطة تستقر قبائل عربية تمتلك الأرض، وتسيطر على طرق المنطقة، وتفرض الضرائب على الطرق النهرية دون معارضة من أحد، وأكثر من مرة حاول الإنجليز بالتعاون مع الفرس احتلال الأحواز دون جدوى، وعندما تحركت بريطانيا لإقامة معمل لتكرير البترول في عبادان، وهي جزء من أرض عربستان، انتدبت السير” برسي كاكس ” ليتفاوض نيابة عنها مع أمير عربستان باعتباره الحاكم العربي الأعلى في المنطقة، لعقد اتفاقية بشأن السماح باستخدام خط أنابيب البترول للمرور عبر أراضي إمارته متجها إلى مصفاة عبادان، وكان يتسلم وفق هذا الاتفاق إيجارا سنويا قيمته 650 جنيها ) ..
ولم تكن أهمية الإقليم الأحوازي في الثروات المعدنية أو البترول المحبوس تحت شواطئه ، أو بسط السيطرة على طرق التجارة إلى الشرق، ولكن أيضا للموقع الجغرافي الهام على امتداد الشاطئ الشرقي للخليج العربي، الذي يتميز بعمق مياهه ، مما يسهل إقامة العديد من الموانئ الطبيعية ، في حين أن مياه الخليج من جهة سواحل دول الخليج العربية ضحلة ، مما يجبر الحكومات الخليجية على إقامة موانئ صناعية .
وتبقى هناك مفارقة أكثر منها مصادفة ، فقد أطلق الفرس على المنطقة الأحوازية المحتلة تسمية “عربستان ” وهو اعتراف ضمني بعروبتها واستقلالها ، ورغم إصرارهم في الوقت نفسه على تسمية الخليج العربي بالفارسي وحتى بعد الثورة الإسلامية في إيران 1979 ومما يعكس بعدا قوميا متطرفا يرفض الحلول الوسط والتوفيق ، وقد اقترح العرب تسمية هذا المسطح المائي باسم ” الخليج ” فقط دون توصيف ، ولكن إيران رفضت ، كما اقترحوا تسميته الخليج الإسلامي باعتبار أن دول الضفتين هي دول إسلامية ، ورفضت إيران ، واقترح العرب ” الخليج العربي الفارسي” فرفضت إيران أيضا، ومعنى هذا أن مفهوم الهيمنة هو من المفاهيم المسيطرة على الشخصية الإيرانية ، سواء في طابعها القومي التقليدي أو الليبرالي أو الإسلامي ..
فالإسلام القادم من إيران يرتدي عباءة فارسية متأثرة بالمواريث الحضارية لأمة تعيش في جو حصار بين شبه القارة الهندية، وشبه الجزيرة العربية !! وإيران تدرك تماما أن شعب الأحواز العربي يمتد على طول ضفة الخليج العربي الشرقية ، ومن أول مداخلها على شط العرب ، إلى مضيق هرمز، ومما ينفي تماما اسمه الفارسي إذا حصلت دولة الأحواز العربية على استقلالها ، فضلا عن العمق الاستراتيجي الذي يعد خط الدفاع العربي الأول في مواجهة المخططات الإيرانية التوسعية نحو دول الخليج ، والتي بدأت باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث : طنب الكبرى ، وطنب الصغرى ، وأبو موسى , ورفض الاحتكام إلى أي جهة قانونية مستقلة كمحكمة العدل الدولية أو أي طرف ثالث ، والمطالبة بالبحرين كمحافظة إيرانية 1971 ثم تكررت تلك المزاعم على متن تصريحات كبار المسؤولين الإيرانيين !!
وهواجس البعد القومي للقطر العربي الأحوازي، وأهميته الاستراتيجية للمنطقة العربية ، دفعت الإيرانيين إلى حرمان الشعب الأحوازي من تسجيل المواليد من الذكور والإناث بأسماء عربية، وتحريم ارتداء الأزياء العربية التقليدية ( الكوفية والعقال ) وإلغاء دراسة اللغة العربية في المناهج المدرسية، رغم أن اللغة العربية هي لسان حال الشعب الأحوازي من الشيعة العرب والسنة والصابئة – أكثر من 10 ملايين نسمة – على امتداد 24 مدينة و3 آلاف قرية داخل مساحة تصل إلى 324 ألف كيلو متر مربع ..
وإذا كانت المصائر قد تقررت داخل فلسطين والأحواز، في زمن رسم الخرائط الجديدة في المنطقة، بما فيها خرائط الاستقلال، وخرائط التقسيم ، وخرائط الانتداب، وخرائط الحماية، ثم جرت الوقائع ونتائجها المأساوية على النحو الذي جرت عليه، فإن ممارسات الاحتلال داخل الجغرافيتين العربيتين كانت ولاتزال متطابقة تماما ، من سياسات العقاب الجماعي ، والتهجير القسري ( تم تهجير أربعة ملايين عربي أحوازي إلى العمق الإيراني منذ عام 1925 ) وبين سياسات ” التهويد ” و” التفريس ” وتمدد المستوطنات والمشاريع الاستيطانية، وسلب الأراضي تحت مسميات اقتصادية، وذرائع أمنية، ويتصل التشابه من سلب المياه الجوفية في فلسطين ، إلى السطو على مياه الأنهار في الأحواز، وحتى عدد المعتقلين متقارب – 12 ألف معتقل داخل سجون كل من إسرائيل وإيران !!
وبعد الإطاحة بنظام حكم البهلويين عام 1979 تصور الشعب العربي الأحوازي أن شعارات الجمهورية الإسلامية الجديدة يمكن تطبيقها على الأرض، وبالتالي فإن التعامل مع قضيتهم سوف يفتح الأبواب للحوار حول تقرير مصيرهم .. ولكن الطموحات الإيرانية السياسية لا تتغير، والمطامع الإيرانية لا تحدها العمامة الإسلامية، وهناك مواريث في أعماق النفوس لا تستطيع إلغاءها !! وجاءت ممارسات إيران الإسلامية أكثر تعسفا في الرغبة في تغيير وجه الإقليم العربي الأحوازي، وصدرت وثيقة “أبطحي ” رئيس مكتب رئاسة الجمهورية في عهد محمد خاتمي ، بترحيل مليون ونصف المليون من عرب الأحواز إلى داخل إيران، بهدف التغيير الديمغرافي للمنطقة الأحوازية، وحين انتفض الأحوازيون وقعت مذبحة “المحمرة” 15/4/2005 والمقاومة الشعبية لاتزال مفتوحة ..
وأتصور كانت الفرصة متاحة أمام “قضية عربستان” طوال سنوات التشاحن الأمريكي الإيراني حول ملف النووي، والمناخ كان يسمح بطرح القضية، وأن تنتقل إلى هامش الإهتمام الأمريكي الغربي كورقة ضغط، حتى لو كانت في يد الغرب، وبالطبع لم يكن متوقعا أن يتبنى الغرب القضية على أساس الرؤية العربية، ولا على أساس أحكام القانون الدولي منها، ولا حتى على أساس الحق والعدل، ولكن التلويح بورقة ضغط على الإيرانيين .. المهم أن يرتفع للقضية صوت ـ على الأقل ـ وربما كانت هناك ممارسات راغبة في التأثير هنا وهناك، وبمقدار ما تسمح به موازين القوى وموازين الواقع ..
وهناك إضافة فوق ما تقدم كله ..إذا كان الشعب الأحوازي العربي وإقليمه، خضع للسيادة العربية منذ آلاف السنين ، فإن عنصر القانون والشرعية الدولية في أي قضية، ليس هو ضابط إيقاعها، وإنما ضابط الإيقاع حقائق القوة، وتوازنات المصالح السياسية والاستراتيجية .. وفي المقابل فإن أكبر مشاكل العالم العربي أن النظرة الجزئية تشغل كل تفكيره ، وهناك غياب للرؤية الشاملة، ومصادر القرار العربي المؤثرة، لا تزال تحت ضغط ثلاثية (المصالح والنفوذ وتوازنات القوى)، فضلا عن الإنطباع السائد بأن الأوضاع القلقة التي تواجهها بلداننا لا ينقصها أن نضيف إليها قلقا آخر.. ولذلك بقيت ” عربستان ” قضية عربية منسية عمدا !! .
فتحي خطاب
المصدر: العرب اليوم