أربعة محددات تحكم مسار الأزمة الإيرانية- الأمريكية
مع اقتراب موعد البدء في تنفيذ العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران، أخذت الأزمة تتصاعد بين البلدين بشكل متسارع وصل إلى درجة التهديد باستخدام القوة بين الطرفين، ومما زاد من خطورة هذا التصعيد تزامنه مع تفجر موجة أخرى من الاحتجاجات والاضطرابات الشعبية الرافضة للسياسات الاقتصادية للحكومة، ابتداءً من العاصمة طهران وامتداداً إلى العديد من المدن الكبرى في أنحاء متفرقة من إيران تطالب بتحسين أحوال المعيشة ومحاربة الفساد والتصدي لانهيار العملة الوطنية مقابل الدولار، وهي الاضطرابات التي لقيت حفاوة عالية في أوساط المعارضة الإيرانية الخارجية ولدى الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الجوار الإقليمي، وفي المقدمة منها بالطبع، إسرائيل، في وقت أخذ فيه إعلام هذه الأطراف والعديد من الدوائر السياسية والبحثية يتبنى دعوة ” اسقاط النظام ” في إيران من الداخل عبر دعم المزيد من هذه الاضطرابات والاحتجاجات الداخلية وإحكام الضغوط والعقوبات الخارجية.
تصعيد الأزمة بين طهران وواشنطن فجرته تصريحات مثيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتعلق بتوجه أمريكي يقضي بمنع إيران من تصدير نفطها ضمن سياسة العقوبات الأمريكية المتصاعدة ضد طهران مدعومة بإجراءات أمريكية فعلية لافتعال أزمة نفطية ضد إيران. فعندما سألت محطة ” فوكس نيوز” الامريكية الرئيس ترامب )12018/7/ ) هل ستفرض عقوبات على الشركات الأوروبية المتعاملة مع ايران كانت الاجابة ” نعم بالطبع. ذلك ما نفعله قطعاً” .
لكن التصعيد الحقيقي جاء عقب تصريحات أمريكية تهدد بمنع إيران من تصدير نفطها ومنع الدول والشركات من شراء النفط الإيراني، والاتفاق الأمريكي مع المملكة العربية السعودية لرفع إنتاجها من النفط بما يعادل 2 مليون برميل يومياً لتغطية النقص المتوقع حدوثه في سوق النفط جراء توقف حصة إيران من تصدير النفط واستجابة السعودية لطلب تقدم به الرئيس لأمريكي للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز بهذا الخصوص.
جدية هذا التوجه الأمريكي تأكدت بالهجوم الحاد الذي شنه الرئيس الامريكي على ” منظمة الدول المصدرة للبترول” )أوبك ) لاعتقاده بعدم تجاوبها مع مطلب زيادة إنتاج النفط انطلاقاً من قناعة المنظمة بأن ذلك من شأنه أن يخل بسياسة المنظمة ومصالح الأعضاء ومنهم بالطبع إيران. الرئيس الامريكي اتهم اوبك ب ” التلاعب بأسواق النفط العالمية” معتبرا ان افضل لها ” ان توقف ذلك ” . تصريحات ترامب جاءت بعد ساعات من تصريحات اسحق جهانجيري النائب الأول للرئيس الإيراني حسن روحاني قال فيها “أن بلاده ستتيح للشركات الخاصة تصدير النفط الخام بطريقة شفافة” في إطار إستراتيجية إيرانية لإجهاض جهود الأمريكيين لوقف تصدير النفط الإيراني.
إيران التي تعتبر أن تصدير النفط بالنسبة لها يعد بمثابة “مسألة حياة أو موت” باعتبار أن إيرادات تصدير النفط هي أهم موارد الميزانية الإيرانية على الإطلاق قررت أن تتحرك على مسارين: أولهما مسار احتواء تلك الجهود الأمريكية في منظمة ” اوبك” وثانيهما، مسار التهديد بمنع الدول الأخرى من تصدير نفطها عبر الخليج العربي ومضيق هرمز.
على المسار الأول اعتبرت إيران أن مناشدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السعودية رفع إنتاج النفط بنحو مليوني برميل يومياً، خطوة مخالفة للاتفاقات المبرمة داخل منظمة الدول المصدرة للبترول (اوبك) و واعتبر مندوب ايران لدي اوبك ” حسين كاظم بور أردبيلي ” أن السعودية لا تملك إمكانات لزيادة إنتاجها النفطي ” كما اعتبرها ان هذه مطالبة للرياض بالانسحاب من اوبك وأوضح أن أعضاء اوبك
اتفقوا في اجتماعهم بفيينا ( 22/06/2018) على إبقاء سقف الإنتاج المتفق عليه.
هذا الموقف الذي اتخذه اوبك جاء داعماً للجهود الإيرانية، وجاء على عكس هوى الرئيس الأمريكي وهو ما دفعه إلى مهاجمة اوبك التي حالت دون تمكينه من إيجاد حلول للأضرار التي سوف تترتب على منع تصدير النفط الإيراني عبر زيادة إنتاج دول أخرى منها روسيا على سبيل المثال وهي من أهم الدول المصدرة للنفط من خارج اوبك .
أما مسار التصعيد باستخدام القوة لمنع الدول الأخرى من تصدير النفط إذا مُنعت إيران من تصدير نفطها، فجاء أولاً على لسان الرئيس الإيراني حسن روحاني خلال استقباله الجالية الإيرانية المقيمة في سويسرا ضمن جولته الأوروبية (04/07/2018) عندما هدد ب” منع عبور شحنات النفط من الدول المجاورة في حال مضت واشنطن قدماً في خططها لإجبار جميع الدول على وقف شراء النفط الإيراني. وعقب هذا التهديد دخلت أطراف عسكرية داعمة له بدأها العميد إسماعيل كوثري، من قادة الحرس الثوري، الذي هدد بخروج النفط من الخليج (العربي) إلى أي جهة في العالم إذا لم يسمح لإيران بتصدير نفطها. ثم أعقبه الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الذي أسرع بإرسال برقية تأييد ودعم قوي للرئيس الإيراني حملت مضامين جديدة في علاقة الحرس الثوري، وخاصة قاسم سليماني بحكومة روحاني وشخص الرئيس. وكان روحاني قد هدد الأمريكيين في لقائه المشار إليه بالجالية الإيرانية المقيمة بالنمسا بقوله ” الأمريكيون يزعمون أنهم يسعون إلى وقف تصدير النفط الإيراني بشكل كامل. هؤلاء لا يفهمون ما يقولون، فهذا الكلام لا معنى له، وفي حال لم تتمكن إيران من تصدير نفطها، فإن تصدير النفط سوف يتوقف في المنطقة كلها”، و”لو أردتم فعل ذلك فجربوا الأمر وستتلقون النتيجة “. هذه اللغة الصريحة وغير المسبوقة من أبرز رموز الإيرانيين، أي الرئيس حسن روحاني، جاءت على هوى أحد أبرز المتشددين الجنرال قاسم سليماني، لذلك لم يتردد سليماني في أن يخاطب الرئيس روحاني الحرس الثوري “مستعد ليطبق سياسة تعرقل النفط الإقليمية حال قيام أمريكا بعرقلة صادرات النفط الايرانية” قائلا : أقبل يديك (روحاني) على تلك التصريحات الحكيمة التي جاءت في وقتها، وأنا في خدمتك لتطبيق أي سياسة تخدم الجمهورية الإسلامية.
وإذا كان الرئيس الجديد للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) حشمت الله فلاحت بيشه قد حاول تخفيف ما ورد على لسان روحاني وقال لا يمكن إغلاق المضيق الذي يعد أحد أهم الممرات المائية في العالم، موضحاً ان الرئيس الإيراني لم يقصد بكلامه منع تصدير النفط من المنطقة و”أن ايران لا تنوي خرق المعاهدات الدولية ” فإن الرد الأمريكي جاء أكثر حزماً وعنفاً من أن البحرية الأمريكية في المنطقة قادرة على حماية صادرات النفط ، ما يعني أن القوات الأمريكية قادرة على منع القوات الإيرانية من القيام بأي فعل من شأنه إعاقة تصدير النفط.
إلى أين تقود هذه اللغة التصعيدية للأزمة: هل إلى الحرب؟
هل إسقاط النظام الإيراني يمكن أن يتحول من شعار دعائي الى هدف إستراتيجي ؟
الأسئلة مهمة وتحسمها أربعة محددات هي التي تحكم مسار الأزمة بين الأمريكيين والإيرانيين بين التصعيد والتهدئة ، هي على الترتيب: حقيقة الموقف الأمريكي من إيران وهل ينحصر في مجرد إجبار إيران على القبول بحزمة المطالب الأمريكية أم يمكن أن يتطور الأمر إلى تبني واشنطن لهدف ” إسقاط النظام ” وموقف القوى الدولية من التصعيد الأمريكي خاصة الاتحاد الأوروبي والصين بين الدعم والرفض، ثم محصلة ما يمكن أن تسفر عنه القمة الأمريكية- الروسية المقبلة في هلسنكي بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين هل إلى تحالف أم تنافس مرشح ليتحول إلى صراع، وأخيراً قدرة إيران على التوحد والصمود وعدم الانفراط الداخلي على ضوء تجدد الاضطرابات والاحتجاجات التي يمكن أن تتطور إلى بلورة كتلة معارضة داخلية قوية تهدد بقاء النظام.
1 – حقيقة الموقف الأمريكي من إيران
تتباين تقديرات مراكز البحوث الأمريكية والإسرائيلية أيضاً في قراءة حقيقة الموقف الأمريكي من النظام الحاكم في إيران وليس فقط من الأزمة المثارة حول الاتفاق النووي، وترجح معظمها وجود انقسام داخل الإدارة الأمريكية حول ما يجب أن يكون هدف التصعيد ضد إيران بين من يدفعون ترامب وإدارته إلى تبني هدف إسقاط النظام وبين من يكتفون حول ” اتفاق جديد ومُحسَّن” بالضغط على إيران للتوصل إلى برنامج إيران النووي.
الخط الرسمي للإدارة الأمريكية كما قرأه كل من عاموس هرئيل وأميرتيفون في صحيفة “هارتس” الإسرائيلية، حسب تقديرات مراكز البحوث والدراسات الأمريكية وحوارات مع رموز مهمين في إدارة ترامب، هو أن ” تغيير النظام غير موجود على جدول أعمال الإدارة الآن ” وهو أن ترامب ” معني بإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات من أجل التوقيع معها على اتفاق شامل” وأن الاتفاق الذي يرغبه ترامب لن يشمل المشروع النووي فحسب، بل يشمل أيضاً عدداً من المسائل الإقليمية المقلقة للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط مثل الوجود الإيراني في سوريا واليمن و ويعتبر وزير الدفاع جيمس ماتيس ، من أكبر الداعمين لهذا التوجه، وهو يعتقد أن محاولة إسقاط النظام من شأنها أن تجر الولايات المتحدة وإيران إلى حرب شاملة، وحسب رأي ماتيس، فإن حرباً كهذه ستضر بالاقتصاد الإيراني وستعرض حلفاء الولايات المتحدة المهمين في الشرق الأوسط للخطر. ماتيس يؤيد زيادة الضغوط على إيران، لكنه يعتقد أن هدف أمريكا يجب أن يكون إعادة الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات، والسعي في هذه المرة إلى اتفاق شامل لا يتعلق فقط بالمشروع النووي.
الاتجاه الآخر يتبناه جون بولتون مستشار الأمن القومي وعدد من كبار الموظفين الذين يعملون تحت إمرته علاوة على كثير من المستشارين المقربين من ترامب شخصياً، وهؤلاء على صلة مباشرة بالملف الفلسطيني، ومن ثم هم يعبرون عن حكومة إسرائيل اليمينية وشخص رئيسها بنيامين نتنياهو الذي يخوض ضد إيران صراعا يعتبره ” صراعاً وجودياً “. بولتون وهؤلاء يدفعون الإدارة الأمريكية إلى تبني ” اسقاط النظام” في إيران. وأكد انه لن يكون هناك مناص من الهجوم عسكري ضد ايران وهو الآن”، وبعد أن أصبح مستشاراً للأمن القومي ، يعتبر أن تظاهرات الاحتجاج المتتالية داخل إيران الرافضة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة تعتبردليلاً على ضعف النظام، وهو يحاول إقناع ترامب وأركان النظام سينهار إذا واصلت الولايات المتحدة عليه و يقول : ” بعض اللكمات الصغيرة، يسقط النظام”
بين ماتيس وبولتون يقف مايك بومبيو وزير الخارجية، ورغم أولوية ملف كوريا الشمالية بالنسبة له إلا أنه يعد من أبرز الصقور في ملف إيران وكان أحد أبرز المنتقدين للاتفاق النووي مع إيران أثناء عضويته في الكونجرس قبل أن يصبح وزيراً للخارجية. كانت هناك تقديرات ترى أن بومبيو أقرب إلى ماتيس، لكنه أضحى أقرب إلى بولتون في الأشهر الأخيرة، والشروط الإثنى عشر التي فرضها بومبيو على إيران لم تركز غير ثلاثة منها على ملفي البرنامج النووي والصواريخ الباليستية الإيرانية والباقي كانت ضد السياسة الإقليمية الإيرانية وانتهت تلك الشروط لان ” وجود النظام ليس ابديا”.
مايك بومبيو سارع إلى انتهاز مظاهرات تجار البازار الأخيرة في إيران لممارسة المزيد من التصعيد ضد إيران ضمن إستراتيجية أمريكية تراهن على مخاطبة المتظاهرين الايرانيين و قال ” الشعب الإيراني يطلب أن يشارك قادته ثروة البلاد ويلبون حاجاته المشروعة” واضاف ” العالم يسمع اصواتهم”
السؤال المهم بهذا الخصوص هو: مع من سيقف ترامب؟
هناك من يرجح أن يتأثر ترامب أكثر بمستشارين ممن هم خارج الإدارة ومن هؤلاء رودي جولياني عمدة نيويورك الأسبق، ونيوت جينجريتش رئيس مجلس النواب الأمريكي سابقاً، وشلدون ادلسون الذي يعد من أكبر ممولي حملة ترامب الانتخابية والصديق المقَّرب من بنيامين نتنياهو. جولياني حضر في العام الماضي مؤتمراً في باريس للمعارضة الإيرانية الخارجية ” مجاهدي خلق” وهناك اعلن ان النظام الايراني يقترب ” من نهايته” و حضر مع جينجريتش مرة ثانية موتمر للمعارضة وفي باريس ايضا بحضور مريم رجوي زعيمة هذه المعارضة وزعيمة مجاهدي خلق ( 2018/7/5 ) ودعا جولياني إلى مقاطعة الشركات التي تواصل تعاملها مع النظام الإيراني وقال “الحرية على قاب قوسين أو أدنى ” و أما جينجريتش فطالب بزيادة الضغوط على الدول الأوروبية التي مازالت تسعى للتعامل مع إيران على الرغم من إعادة فرض الولايات المتحدة عقوبات على السبيل الوحيد للأمان في المنطقة وقال ” “السبيل الوحيد للمنطقة هو باستبدال الدكتاتورية بالديمقراطية، يجب أن يكون ذلك هدفنا”.
وسط هذا الانقسام داخل الإدارة الأمريكية حول إيران يبقى الموقف النهائي للرئيس الأمريكي وهو الذي سيحدد إستراتيجية واشنطن ضد إيران. احتواء النظام أم إسقاطه وعلى أساسه ستتحدد معالم مسار الأزمة بين واشنطن وطهران.
2 مآل تنازع المصالح بين كل من الاتحاد الأوروبي والصين مع الولايات المتحدة
يوجد الآن تنازع للمصالح، لم يرتق بعد إلى مستوى الأزمة، بين كل من الاتحاد الأوروبي والصين مع الولايات المتحدة، بسبب اعتماد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لسياسة فرض رسوم جمركية على واردات بلاده من الخارج وبالذات مع كبار الشركاء التجاريين وعلى الأخص الاتحاد الأوروبي وكندا والصين، باعتبار أن هذه السياسة سوف تكون حتماً في صالح الصناعة الأمريكية والاقتصاد الأمريكي بصفة عامة، دون اعتبار للقواعد الحاكمة للتجارة الدولية التي تعتمد على حرية التجارة ونبذ السياسات الحمائية الوطنية، كما أكدتها القواعد القانونية المؤسسة لمنظمة التجارة العالمية.
لم يتردد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أن يفجر أزمة داخل اجتماع قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في مقاطعة كيبيك الكندية ( 9 -8 يونيو 2018 ) عندما أصر على فرض رسوم جمركية على واردات بلاده من الاتحاد الأوروبي وكندا وخاصة الصلب والألومنيوم، وعندما قرر سحب توقيع بلاده على البيان الختامي لتلك القمة بعد أن غادرها مبكراً متوجهاً إلى سنغافورة استعداداً للقائه مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، وقبل هذا كله كان الرئيس الأمريكي قد أعلن انسحابه من الاتفاق الدولي الموقع مع إيران حول برنامجها النووي (8 مايو 2018 ) دون اعتبار للرفض الأوروبي لهذا الانسحاب، وباقي الشركاء الموقعين عليه (روسيا والصين)، وزاد على ذلك توجيهه تحذيرات مشددة للشركات الأوروبية بالمقاطعة الأمريكية إن هي استمرت في التعامل مع إيران، الأمر الذي أدى إلى انسحاب شركات أوروبية كبرى من إيران رغم أنف حكوماتها خشية العقوبات الأمريكية.
هذا التوتر المتصاعد في العلاقات الأوروبية- الأمريكية يخدم بالطبع الموقف الإيراني، فدول الاتحاد الأوروبي بدأت تدرك يوماً بعد يوم أن الولايات المتحدة، في ظل إدارة دونالد ترامب لا تعطي اعتبار لمصالح حلفائها وشركائها، وأن المصالح الأمريكية تعلو فوق كل اعتبار، لكن هل يمكن أن تدخل أوروبا في أزمة مع الولايات المتحدة بسبب إيران وبوضوح أكثر بدافع من الحرص على مصالحها الخاصة مع إيران؟
هذا السؤال فرض نفسه عندما قررت الولايات المتحدة منع إيران من تصدير نفطها، واتخذت تدابير لحماية سوق النفط العالمية لمعالجة الآثار السلبية المتوقعة، وخاصة ارتفاع أسعار النفط، من جراء الغياب المحتمل لحصة التصدير الإيرانية من النفط عن طريق زيادة بعض حلفاء واشنطن من إنتاجهم النفطي.
لو استجابت دول الاتحاد الأوروبي للتعليمات الأمريكية بوقف استيرادها للنفط الإيراني ومنعت شركاتها من شراء هذا النفط، وساعدت واشنطن في فرض حصار دولي لمنع تصدير النفط الإيراني، فإن واشنطن سيكون بمقدورها تصعيد أزمتها مع إيران، واستخدام نقص أو توقف عائدات بيع النفط الإيراني لإحداث تفاقم في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية توطئة لتفجير ثورة داخلية يمكنها أن تُسقط النظام الحاكم في طهران، وفقاً لرهانات الجناح المتشدد في الإدارة الأمريكية الذي يتبنى هذا الخيار. لكن لو تصدت أوروبا لهذه السياسة الأمريكية بدافع من تباعد المصالح الأوروبية- الأمريكية، ودعمت الموقف الإيراني، ربما يتعثر هذا المسعى الأمريكي لفرض خيار إسقاط النظام، وأن تعود واشنطن إلى التوافق مع أوروبا بالعمل على اتفاق جديد مع إيران حول برنامجها النووي يحقق مصالح كل الأطراف. الاجتماع الأخير الذي عُقد في فيينا بين إيران ومجموعة الدول الخمس الموقعة على الاتفاق النووي (روسيا والصين وألمانيا وبريطانيا وفرنسا)، والبيان الصادر عنه والذي قرأته فيديريكا موجيريني مسئولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي حسم هذا الأمر، فالبيان ضمن لإيران حقها في تصدير النفط، وقرر حماية الشركات الأوروبية المتعاملة مع إيران من العقوبات الأمريكية. وقد تضمن هذا البيان 11 هدفاً أبرزها تأمين حق إيران في مواصلة تصدير النفط والغاز، وإبقاء قنوات مالية فاعلة مع إيران واستمرار التبادل معها بحراً وبراً وجواً، وتطوير تغطية الائتمان عند التصدير، وتشجيع الاستثمارات الجديدة في إيران. عقب هذا الاجتماع أعلن محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني أن الدول الخمس تعهدت بتمكين إيران من تصدير نفطها وقال : ” لمست وجود إرادة سياسية لاجتماع فيينا للتصدي للسياسة الأمريكية و مقاومتها” و لكنه أضاف أنه “يجب تنفيذ كل الالتزامات التي تم التعهد بها في هذا الاجتماع قبل مهلة 6 أغسطس (التي ستطبق فيها واشنطن عقوباتها على إيران)، وعندها سيعود الأمر للقيادة الإيرانية لتقرر هل عليها البقاء في الاتفاق النووي أم لا” . وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان عبر عن الموقف الأوسطي بين واشنطن و طهران وقال : ” على إيران التوقف عن التهديد بخرق التزاماتها بموجب الاتفاق الحزمة الاقتصادية الأوروبية ” (حزمة الوعود والتعويضات ) قبل فرض العقوبات الأمريكية المقررة في نوفمبر (منع تصدير النفط الإيراني)، أما بالنسبة لعقوبات السادس من أغسطس فإن الوقت يبدو ضيقاً، لكننا سنحاول إنجاز الأمر بحلول نوفمبر “.
بهذا المعنى يمكن القول أن الأوروبيين مازالوا في منتصف الطريق بين الحليف الأمريكي وإيران، وأنهم مع تمكين إيران من تصدير نفطها وتعويضها عن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وهم أيضاً مع منع إيران من الانسحاب من هذا الاتفاق ، أي أنهم مع استمرار الاتفاق النووي بين إيران وبين الدول الخمس الأخرى الموقعة عليه رغم الانسحاب الأمريكي وأنهم سيحاولون تقديم ما يقنع إيران بالاستمرار في الاتفاق وعدم الانسحاب منه.
الموقف الصيني يبدو مختلفاً، فالصين والهند على رأس الدول المستوردة للنفط والغاز الإيرانيين، وقد تجد نفسها الآن في صدام مباشر مع الولايات المتحدة بعد قرار الرئيس لأمريكي بفرض الرسوم الجمركية على واردات أمريكية من الصين تقدر ب 34 مليار دولار، الأمر الذي دفع الصين هي الأخرى إلى معاملة واشنطن بالمثل.
هذا المستوى من صدام المصالح بين الصين والولايات المتحدة يصب في مصلحة إيران كما هو حال الاتحاد الأوروبي، ومن ثم قلنا أن نتوقع موقفاً أوروبياً – صينياً داعماً للموقف الإيراني في مواجهة العقوبات الأمريكية.
-3 مخرجات قمة هلسنكي بين بوتين وترامب
تواجه العلاقات الإيرانية – الروسية مرحلة تشكيك في النوايا من جراء خلافات أخذت تفرض نفسها بين موسكو وواشنطن في ملفين رئيسيين الأول ملف الوجود الإيراني في سوريا، والثاني ملف زيادة إنتاج النفط الروسي الذي تعتبره طهران بمثابة ” صفقة” ضد مصالح إيران في حال تورط روسيا في زيادة إنتاجها من النفط، لأن هذه الزيادة ارتفاع أسعار سوف تفقد إيران ورقة ضغط مهمة وهي خطر ” ارتفاع اسعار النفط” إذا ما تعرضت إيران إلى عقوبات تفرض تصدير نفطها. هذا التشكك الإيراني يزداد حساسية الآن في ظل قمة بوتين- ترامب في هلسنكي( 16/07/2018) . ففي حالة حدوث توافق بين الزعيمين على موقف من إيران سواء بالنسبة للوجود الإيراني في سوريا، أو مجمل الملف السوري بما يتمشى مع المطالب الإسرائيلية، أو بالنسبة للعقوبات الأمريكية التي ستفرض على إيران، فإن الخطر سوف يتفاقم على إيران، والعكس هو الصحيح فالخلاف بين لزعيمين سيكون في مصلحة إيران، لذلك يراقب الإيرانيون هذه القمة باهتمام شديد.
-4 قدرة النظام الإيراني على الصمود أمام خطر إسقاطه من الداخل
تؤكد مشاركة شخصيات أمريكية مقربة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس الذي نظمته حركة ” مجاهدي خلق” بالخارج (2018/6/30 ) الذي أضحى سنوياً، أن النوايا الأمريكية لإسقاط النظام الإيراني من الداخل باتت مؤكدة. مشاركة كل من رودي جولياني ونيوت جينجريتش المشار إليها في هذا المؤتمر وما صدر عنهما من تصريحات متشددة ضد النظام الإيراني، تؤكد جدية التوجه الأمريكي بالتعاون مع المعارضة الخارجية الإيراني لإسقاط النظام، وإذا كان ما صدر عن مريم رجوي زعيمة “مجاهدي خلق” من دعوات لإسقاط النظام أو بأن الشعب بدأ يثور لإسقاط الديكتاتورية وأن الثورة باتت على الأبواب ، في خطابها الافتتاحي لمؤتمر باريس قد يبدو ” هزليا” الان، إلا أنه قد يتحول إلى واقع إذا لم يستطع النظام إيجاد الوسائل الكفيلة لمعالجة الأزمات الاقتصادية وتردي الأوضاع المعيشية ومحاربة الفساد، وإذا لم يستطع تحقيق التوافق والانسجام والتوحد الوطني حول أولويات عليا لحماية إيران والنهوض بها، وإذا لم تستطع إيران معالجة أزماتها مع جوارها الإقليمي.
إيران أمام اختبار صعب ودقيق والجبهة الإيرانية الداخلية هي مفصل السقوط أو النهوض وهي مرتكز التحدي الحقيقي لمواجهة كل أشكال الاختراقات الخارجية. هذه المحددات الأربعة تؤكد أن إيران في موقف شديد الصعوبة، وأن التحديات تتفاقم، وأن هذا هو أوان المراجعة والمحاسبة لسياسات الداخل وعلاقات الخارج.
د. محمد السعيد إدريس
مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
المصدر : مركز دراسات دور انتاش