مقتطفات من مذكرات السجن
أن تستطيع المشي على الأقدام في المعتقلات، وأن تكون سجيناً سياسيّاً، فهذه نعمة يحمد عليها، وذلك نظراً لشدّة التعذيب..
ورغم قسوة التعذيب، فما زالت قدماي تطاوعني للمشي في أحد ممرّات السجن بإتجاه القسم ٦، حيث يقبع فيه المعتقلين السياسيين، فظهر أمامي شاب لم أعرفه من قبل، طويل القامة، قوي البنية، مفتول العضلات فاتحاً صدره ويداه كأجنحة النسر، وبما أنّ عرض الممرّ لا يتجاوز المتر والنصف حاولت تغيير مسيري بعض الشيء لكي لا يصطدم بي.
ولكنّه قد تعمّد حَرْف مسيره ليلتقيني وجهاً لوجه، ظننت أنّه من البلطجيّة، حتّى بادر بإلقاء التحيّة علي فعانقني بحرارة وكأنه يعرفني جيّداً، وسألني ما إذا كنت أعرفه أو أتذكره؟ ورغم تمتّعي بذاكرة قويّة، إلّا أّنّ الذاكرة قد خانتني هذه المرّة، فقلت له “لا”، لا أتذكرك للأسف، فقال أنت الذي ساعدتني في القسم ٢ الخاص بالسطو المسلّح، وذكرّني بموضوع، حدث آنذاك حين كنت في هذا القسم.
ويعود الموضوع إلى بداية عام ٢٠١٠ حين تمّ نقلي مع بعض المعتقلين السياسيين إلى الأقسام الأخرى بهدف الضغط والتعذيب النفسي وكذلك الجسدي الذي من شأنه أن ينجم عن عراك مع أحد المتخلفين أو نصاب في أجسادنا عدوى الأمراض المتفشيّة (السل ، هباتيت، الايدز و الامراض الجلدية الفطريات و …) في مثل هذه الأقسام، لشدّة الإهمال.
وكان نصيبي من القسم الخاص بالسطو المسلّح ٤٥ يومياً، ويحتاج هذا القسم بسجن كارون في الأحواز إلى الكثير من الشرح والتفسير والحديث المفصّل، إلّا أنّي أكتفي هنا بالكتابة عن الأيام المقرّرة للزيارة والتي تختلف تماماً عن باقي الأيام، وذلك نظراً لما تشهد هذه الأيام من حيويّة تبدأ من الصباح الباكر، إذ تشاهد اثنان أو ثلاثة معتقلين يتجمعون في كل زاوية من زوايا القسم، ويتحدثون في أمور تبدو أنها في غاية الأهميّة، ويرفع أحدهم صوته أحياناً لتصلني بعض الكلمات من حديثهم المهم.
الأجواء في قسم ٢ توحي وكأنه قد تحوّل إلى أحد الأقسام الخاصّة بالمعتقلين السياسيين، وذلك دون معرفتي بفحوى ما يدور من حديث وحوارات بين المعتقلين، وبعد الزيارات تكوّن طابوراً طويلاً على الحانوت ولا زلت لم أفهم جيّداً ما يدور وما يحدث من حولي داخل القسم.
ولكن ديكور القسم قد تغيّر بعد الظهر، فالأسرّة تتكوّن من ثلاثة طوابق، وتحوّلت الأسرّة الوسطى إلى خيام مغلقة، والبطانيات التي تشكّل جدران الخيام تحجب الرؤية عمّا يدور في داخلها، وتفوح رائحة المخدّرات داخل القسم، كما أشاهد بعض الأدوات في الحمامات والمطبخ، ما لم أشاهدها الا القليل في بقيّة الأيام. فكلّ الحكاية إذاً تتعلّق بالمعاملات فيما بين تجّار المخدّرات الصغار والموزّعين من جهة، والسجناء المدمنين من الجهة الأخرى.
وكل المبالغ التي ترسلها أسر المعتقلين، تتحوّل إلى أدخنة تتناثر في قسم ٢، وبعد كلّ تلك الحيويّة والنشاط الذي شاهدته منذ الصباح الباكر، خيّم الهدوء التام على القسم، وفجأة تحوّل هذا الهدوء إلى عراك ومشاجرات فيما بين الموزّعين وبعض المدمنين الذين لم يحظون بزيارة أسرهم وتلقي الأموال منها لإيفاء الديون المتراكمة عليهم من قبل الموزّعين.
أمّا في اليوم الثاني وأنا أقف على طابور الهاتف للتواصل مع أسرتي، فأسمع توسّل السجناء المدمنين بأسرهم لإيصال مبلغاً ما في السجن. ودون أن أبذل أيّ جهود لإستراق السمع، تصلني عبارات من المعتقلين وهم يتحدثون مع حبيباتهم أو زوجاتهم قائلين: “أعملي أي شيء، أعملي ما تشائين، دبري لي فلوس”!
إنّها النهاية، نهاية الإنسانيّة والشرف والقيم والمبادئ، إنه السقوط التام والإنحدار إلى الحضيض، فمن يتم إسقاطه بالمخدرات والإدمان، سوف يرتضي ببيع شرفه مقابل كميّة بسيطة من المخدّرات.
نعم.. هكذا دمّر الاحتلال الأجنبي الفارسي العديد من أبناء شعبنا، أولئك الأبناء الذين كان يشهد لهم بالغيرة المفرطة ليس على أعضاء أسرهم وأقاربهم وجيرانهم فحسب، بل على كافة بنات قبيلته، وعلى كلّ إمرأة أحوازيّة، سواء أكانت تربطهم بها صلة أسرية أو قبلية أو جوار، أو حتّى لا تربطهم بها أية صلة، فتنتفض غيرتهم تجاهها ويهبون إلى مساعدتها دون معرفة إسمها أو نسبها، وفجأة يتحوّل هؤلاء الغيارى والجسورين إلى القبول بأن تفعل زوجاتهم ما تشاء، مقابل توفير حفنة من المال لتعاطي وجبة من السموم الفتاكة.
وفي أحد الأيام وكالعادة كانت تطفو مياه مجاري الصرف الصحي في ساحة القسم، وتملأ القسم الروائح الكريهة والنتنة إلى درجة بحيث يتمنى المرء فقدان حاسّة الشمّ، فذلك أفضل من أن تملأ أنوفنا تلك الروائح التي كانت تجبرنا على التقاط الأنفاس من الفم عوضاً عن الأنف.
وفي هذه الأثناء، رأيت أحد المعتقلين بملابس رثة وهو ملقيّاً في الساحة وسط بحيرة من مياه المجاري ويتدفق الزبد من فمه، فاقتربت منه بمنتهى الصعوبة، محاولاً قدر المستطاع ألّا اتلوّث بتلك المياه القذرة، لكي أتأكد ممّا إذا كان حيّاً أو ميّتاً، فبعد وصولي إليه وبعد تأكدي من أنه حياً، تبادلت الحديث القصير معه وعاتبته على حالته المزرية التي بلغها، ثم ابتعدت عنه.
لقد اعتدت على مشاهدة حالات مماثلة في هذا القسم، فشاهدت غالبيّة المدمنين في مثل هذه الحالة خلال الأسابيع الأولى بعد الإعتقال، ورغم ذلك، تألمت كثيراً على حالة هذا الشاب، فما هانت علي حالته ولم استطع تجاهل الأمر وتركه بهذا الوضع السيء للغاية، لذا طلبت من بعض السجناء المساعدة لنقله إلى الحمّام أولاً ومن ثم نقله إلى الغرفة، وأعطيتهم بطاقة شحن للهاتف التي كانت تساوي النقود في السجن، حيث تمنع العملة الورقيّة داخل القسم، كما اعطيتهم البعض من ثيابي لكي يرتديها بعد الحمّام.
وبعد أيام من تلك الحادثة، تمّ ارجاعي إلى قسم ٣، ولم أرى هذا الشاب، إلّا في ممرّ الرئيسي (كريدور) حيث عانقني بحرارة. وكم هو كبير بل شاسع الفرق بين ذاك الشاب الملقي في بحيرة من المياه القذرة وهو في حالة يرثى لها، وبين هذا الشاب المهيب الذي تملأه الحيويّة والقوى والإرادة الصلبة.
وبعد أنّ تعرّفت عليه، وبعد أن تذكرت كلّ تفاصيل الحادثة، روى لي حكايته وكيف أنه قد ورث ثروة بعد وفاة والده الذي كان يعمل في إحدى الدول الخليجية [1]،و قد بدأت أولى تجربته مع مخدّر الكريستال (الشيشة) بسبب البعض من أصدقاءه الذين حثوه على ذلك، وكان الغاية هي الإطالة في المتعة الجنسيّة، وأكّد بأنه قد اقلع تماماً عن المخدّرات وعادت إليه صحته كما شاهدت تماماً، وبيّن بأنّ والدته وبعد تورّطه بالإدمان، قامت بنقل كافة ثروة أبيه بإسمها حفاظاً عليها.
تقع الأحواز في جنوب غربي جغرافية إيران، وتحديداً تقع على أبعد مسافة من الحدود الأفغانية في الحدود الشمالية الشرقية من هذه الجغرافيا ، ورغم ذلك، فإنها تحتل المرتبة الأولى في الإدمان والمخدرات ضمن كل هذه الجغرافيا ، والسبب في ذلك يعود بالطبع إلى سياسة الاحتلال وتساهله مع كبار تجار المخدّرات في الاقليم. أما في سجون الأحواز، فالوضع أسوء ورغم التفتيش ومنع دخول الأشياء التي تعد ممنوعة داخل السجن، إلّا أن جميع أنواع المخدّرات تصل داخل الأقسام فيستهلكها السجناء.
وفي نفس قسم ٢ والخاص بالسطو المسلّح، جاءني شاب يدعى “شاهين رجبي” وكان يطلق عليه داخل السجن بـ: “حواله دار” أي أنه من الذين تأتيهم طرود خاصّة بالمخدرات، وكنا معاً من قبل في القسم عدد ٦، ولكنه كان في غرفة أخرى من القسم، وتحديداً في غرفة رقم ١، وحينما كنا بمنتهى الصعوبة نحصل على إتصال هاتفي لمدة ثلاثة دقائق مع ذوينا، كانت إدارة السجن تمنح شاهين رجبي استخداما لبدّالة (الهاتف) عدة ساعات لوحدة، وكان يتودّد للسجناء السياسيين ويقترب منهم ويبني صداقات معهم. ولكن دعوته في أحد الأيام من قبل بعض السجناءالسياسيين، تسبّبت في بعض الخلافات فيما بين السجناء السياسيين حيال التعامل مع هذا الشخص.
إذاً جاءني شاهين راغباً بالحديث معي، وأنا أكره الحديث معه، لا بل أمقته ولا أطيقه، ولكني فوجئت لأنه بدأ بالحديث من حيث أضمر له، وقال أنت تبتعد عنّي دون بقيّة السياسيين، ولا تسلّم علي وتكرهني، فقلت له نعم، لأنك تحطّم الآلاف من شبابنا بتوزيع المخدرات عليهم، وتعلّق أسرهم الكثير من الآمال على إقلاعهم عن الإدمان داخل السجن، ولأنك في عمري، فأذكرك بأنك تماماً مثل تلك الشخصيات السيئة والسلبية التي كنّا نشاهدها في الأفلام.
ودون أن يدافع عن نفسه، قال الحق معك، وبيّن بأنّه مرغمم من قبل بعض الجهات في توزيع المخدّرات وأن تجارة المخدرات مربحة جداً في السجن، وأنّ أرباحها داخل السجن تعادل أضعاف الأرباح خارج السجن، وأن مدير السجن المدعو “سلمان رستمي” و هو برتبة عقيد في الحرس الثوري و نائب مدير السجن في شئون الداخلية المدعو “أحمد آزاده “، حالياً مدير سجن شيبان همامن يقومان بإدخال المخدرات له بحقيبة ديبلوماسية. وما هو حرصهم على مكافحة المخدرات في السجن، إلّا لإقصاء المنافسين لكي تخلو لهم الساحة.
قلت له وهذا لا يبرّر جرائمك كما لا يوجد دليل على إدانة رستمي وآزاده، بل العكس فكل يوم نشاهدهم في الظاهر، وهم يقومون بالتفتيش عن المخدرات ومعاقبة التجّار. وقال بأنه مجبر وتوجد جهات أخرى أعلى من رستمي مدير السجن تدعم توزيع المخدرات، وما هي هيئة مكافحة المخدرات إلّا لإقصاء لمنافسين فقط، وإنه يمتلك دليلاً دامغاً لتورّط رستمي وآزاده في تجارة المخدرات، كونه طلب من أحد أقاربه وشريكه في تجارة المخدرات وتأمينها خارج السجن وتسليمها لهؤلاء ليصورهم عند استلام ٤٠٠ مليون ريال (٤٠ الف دولار آنذاك)، وكذلك تصويرهم عند إستلام المخدرات التي يجب أن يدخلها المدير في حقيبته.
وقال لي أيضا بأن حياته في خطر، كونه قد هدّدهم بنشر الفيلم. ولكن وبعد أيام من عودتي إلى القسم السياسي، سمعنا بأن شاهين رجبي قد انتحر في السجن ولكن كل من يعرف شاهين في السجن، يعرف أيضاً بأنه مستعداً لقتل أي شخص آخر عدا نفسه.
[1](1). لا أذكر إسمه نظراً لكونه معروفا في الأحواز.
الاسير السابق المهندس غازي مزهر
المصدر : مركز دراسات دورانتاش