إيران والربيع العربي
دعونا ننطلق في تحليلنا
هنا من قاعدة نظرية أساسية لا تحول ولا تزول، وهي أن أي دولة مستبدة متسلطة على شعبها
باسم الدين أو باسم الإلحاد أو باسم الشعب، ولا تراعي مع مواطنيها حقوقه المشروعة ولا
تقيم وزنا للكرامة الإنسانية عندما تتعامل مع معارضيها. هذه الدولة لا يمكن لها أن
تدعم نداءات الحرية والكرامة لشعوب أخرى، ولو حتى تصنعا. ولا يمكن لها أن تدعم مساعي
تلك الشعوب وتؤيدها في نضالها من أجل الكرامة والحرية والعدالة.
لقد راقب العالم أجمع كيف
تعاملت السلطات الإيرانية مع المظاهرات الشعبية التي عمت طهران احتجاجا على نتائج الانتخابات
المزورة في عام 2009. لقد كانت اعتداءات وحشية على متظاهرين سلميين من أجل قمعهم وإسكاتهم،
أدت إلى مقتل العشرات إن لم يكن المئات. ونجحت إيران في إخماد المتظاهرين، بل وفي قمع
كبار الساسة المعارضين. لقد كان مثالا ونموذجا، احتذى وتأسى به بشار الأسد منذ بداية
الثورة السورية وحتى يومنا هذا، وما زالوا يراهنون هم، والعالم أجمع، على نجاحه.
إن غياب فهم هذه النظرية
عن بعض مثقفينا قد أزاغ أبصارهم وأوقعهم ضحية فن التصنع في السياسة الإيرانية وضحية
لسحر خطاب الساسة الإيرانيين، وذلك عندما أعلنت إيران تأييدها للثورة في تونس ومصر.
وفي الحقيقة، هي ليست مع أي ثورة عربية سواء في تونس أو في مصر أو في سوريا. إلا أن
سياستها تجاه كل من هذه الثورات بعد أن قامت كانت مختلفة حسب مصالحها الوطنية.
لقد أعلنت إيران تأييدها
للثورة في مصر بعد أن أصبحت واقعا على الأرض وكانت شيئا متحققا لا محالة، فهي – كما
تم التعرض إليه أعلاه – ليست بصدد دعم مطالب الكرامة ومطالب الحريات عند الشعوب الأخرى،
خصوصا تلك الشعوب المجاورة لها. لأن هذه المطالب ذات خاصية معدية تنتشر بين الشعوب
انتشار النار في الهشيم. وهذا ما أكدته أحداث الربيع العربي.
لقد تصدرت إيران الساحة
العربية والإسلامية الشعبية منذ عقدين تقريبا، ويمكن القول، بعد حرب الخليج الأولى
عام 1991. وذلك ليس بسبب مقوماتها، وهي كبيرة بلا شك، بل بسبب حالة الخذلان العربية
المستمرة منذ عقود، وضعف القيادات السياسية فيها، وتراجع الدور الإقليمي للكثير من
الدول العربية الكبيرة، وقد تكرست هذه الحالة بشكل غير مسبوق بعد غزو العراق عام
2003. وحالة الخذلان هذه تخدم أكثر ما تخدم الدول الإقليمية الكبرى المجاورة للدول
العربية وهي إيران وتركيا، وقد أحسنت إيران استغلالها خير استغلال اعتمادا على مبدأ
استخدام الدين لخدمة واقعيتها السياسية. لذلك، ليس هناك مصلحة لإيران إلا باستمرار
هذه الحالة في الدول العربية ولأطول مدة ممكنة. فلا يمكن لإيران أن تدخل في أي مشروع
تدعم فيه حركات شعبية تحررية في العالم العربي ضد أنظمتها، إلا إذا كانت حركات موالية
لها تزيد في نفوذها داخل تلك الدول وبالتالي تزيد في هيمنتها الإقليمية. لأن حركات
التحرر العربية المستقلة ستقلل أو تنهي حالة الخذلان العربية السائدة، وهذا ما فعلته
كل الثورات العربية بالفعل في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. إذن، فإن هدف هذه الثورات
يتناقض مع هدف إيران الأكبر وهو احتكار الموقف البطولي والمقاوم عربيا وإسلاميا ضد
إسرائيل. بل إن وصول قيادات عربية تتبنى مشروع المقاومة بإخلاص وصدق، سوف يكشف الادعاءات
الإيرانية ويحجم مكانتها. ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين التفاعلات السياسية للعدوان
الإسرائيلي على غزة في ديسمبر (كانون الأول) في عام 2009 والتفاعلات السياسية للعدوان
الإسرائيلي على غزة في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2012 – لوجدنا هذه الحقيقة بارقة
أمام أعيننا.
لقد تبوأت إيران أثناء
العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2009، وقبلها طبعا في عام 2006 أثناء حرب يوليو
(تموز) على لبنان، مكانة لا تضاهيها مكانة شعبية عربيا وإسلاميا، وتمتعت بولاء سياسي
ما بعده ولاء من بعض قيادات المقاومة في فلسطين ولبنان، إلى درجة أن خالد مشعل، رئيس
المكتب السياسي لحركة حماس، ذهب إلى طهران وألقى خطابا في جامعتها، أثنى فيه بشدة على
الدعم الإيراني والسوري لمشروع المقاومة في فلسطين ولبنان، لا بل وأهدى الانتصار الذي
حققته المقاومة إلى إيران وسوريا. الأمر الذي أوقع العالم العربي والإسلامي في فتنة
عقدية كبيرة لصالح التشيع استمرت حتى قامت الثورة السورية، ووضعت الأمور في نصابها
الصحيح. ويبدو أن براغماتية بعض قيادات المقاومة، وخصوصا حركة «الجهاد الإسلامي»، قد
حررتهم من أي خوف أو قلق من تشييع العالم العربي والإسلامي مقابل بعض الصواريخ الإيرانية
لضرب إسرائيل أو بعض الأموال الإيرانية لمساعدة الشعب الفلسطيني.
بينما أثناء العدوان الإسرائيلي
على غزة في نوفمبر 2012، تبوأت مصر تلك المكانة الكبيرة في الدفاع عن غزة، واعتلى خالد
مشعل منبره الإعلامي في وسط القاهرة، وتم التعريج في حديثه على إيران. وهذا تغير خطير
أصاب المسؤولين الإيرانيين بنكسة كبيرة. وقد وصلت حنقة المسؤولين الإيرانيين ذروتها
عندما زار مسؤولون عرب غزة للتضامن مع أهلها. إيران لا تريد أحد أن ينازعها الاغتنام
من وراء القضية الفلسطينية وقضية التصدي في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
إن أفضل وضع لإيران في
مصر، كان هو إقامة علاقات جيدة مع نظام حسني مبارك بشكل يحفظ لها مكانتها كداعم وحيد
للمقاومة ويحقق لها مصالحها في مصر. وهذا ما سعت إليه بشكل دائم خلال العقود السابقة
دون جدوى. وعندما جاءت الثورة في مصر شعرت إيران بمأزقها، لكنها، ومن خلال براغماتية
سياسية معهودة، لم تستطع إلا أن تبارك الثورة وتؤيدها. وخلال حكم المجلس العسكري، تحقق
لإيران ما سعت إليه دائما، حيث استطاعت سفن حربية إيرانية عبور قناة السويس بعد منع
استمر 30 سنة تقريبا، طبعا مع الاحتفاظ بمكانتها الخاصة والفريدة في دعم المقاومة حتى
ذلك الوقت. لكن بعد مجيء الإخوان المسلمين إلى الحكم مصر، قامت إيران بالانكفاء على
مصالحها في مصر وزيادة نفوذها هناك وفي الدول المجاورة مثل ليبيا، مستفيدة من علاقاتها
التاريخية الحسنة معهم. فهي لا تستطيع أن تزايد عليهم في مشروع المقاومة والممانعة.
أما في ما يتعلق بدعم إيران
للنظام السوري، فهو بسبب اعتبارات طائفية أولا، ومن ثم زيادة في دعم شرعية النظام السوري
داخليا. فالنظام السوري منذ أن جاء حافظ الأسد إلى الحكم يستمد شرعيته من القضية الفلسطينية
ومن مقاومة إسرائيل، فلا شرعية له سواها، وبها استطاع فعل ما يشاء داخليا وإقليميا.
وهذا سبب عدم تخلي النظام عن شعار الممانعة والمقاومة حتى بعد مشاكله الكبيرة مع أغلب
الفصائل الفلسطينية وأهمها حماس، لأن تحت هذا الشعار تكمن شرعيته وتزداد سطوته. ولذلك،
تسعى إيران إلى مشاركة النظام في سوريا أمجاد النصر في لبنان وفي غزة، لأنها تريد دعم
شرعيته وتعزيزها وجعل يده ممدودة في الداخل السوري وفي دول الجوار. وقد لعبت بعض قيادات
المقاومة الفلسطينية مع الأسف بإعطاء هذه الشرعية مصداقية أكبر.
أما في ما يتعلق بالثورة
السورية، فالصراع هناك بالنسبة لإيران هو صراع على البقاء، ولذلك كانت وإلى اليوم الأخير
ستبقى في الخط الأول داعمة للنظام السوري على كل المستويات. لأن انهيار النظام السوري
انهيار لدورها الإقليمي وانكفاؤها من جديد وانكسار لكل مرابطها وأوتادها الإقليمية
في العراق ولبنان وسوريا وحتى الدولية في أفريقيا وآسيا الوسطى. تلك المرابط تحظى بمباركة
أميركية واضحة، كتسليم العراق لإيران مثلا.
إيران دولة واقعية براغماتية
تهيمن عليها القومية الفارسية في سياستها الخارجية الإقليمية، ولم تكن يوما تعبأ بالمظلومية،
وليس دم الحسين وأهله ما تفكر فيه، بل هو كسرى الذي انكسر وكنزه الذي اندثر.
في المقابل، لم تعد عباءة
الدين تخفي ما تواريه إيران أمام الشعوب العربية، ولا حتى العمائم ولا اللحى، لأن جرائمها
في العراق وتورطها الآن في سوريا قد برهن أن للشياطين لحى أيضا وعمائم.
* أكاديمي
في «مركز الدراسات السورية» بجامعة سانت آندروز البريطانية
المصدر: جريدة الشرق الأوسط