مخاتلة (السعودية وإيران: إشكال اللغة والآيديولوجيا)
كان من الطبيعي أن تتعامل طهران مع الرياض على أنها قاعدة السنّة ومركزها، وهي فعلاً كذلك، فتحاربها على هذا الأساس. السعودية خصم لسياسة إيران، لكنها لا تستخدم الآيديولوجيا، فإن كانت «عصائب الحق» عدواً لها فإنها لا تفترق عن «داعش». الدولة السعودية لم تكن يوماً آيديولوجية وإن زعم بعضهم ذلك. هل اشترطت على إيران أن يكون حجّاجها من السنّة؟ هل سألت اليمن عن طوائفه؟ هل امتحنت إيمان لبنان؟ هل حرّضت عرب الأحواز وسنّتها على التمرد؟ مشكلة إيران أنها منذ أيام الشاه كانت تظن نفسها إمبراطورية فارسية، ثم استدارت إلى حاضنة شيعية لم يقبلها حتى الشيعة العرب، لشدة تطرفها وشعوبيتها. لا ترتفع الصرخات الإيرانية إلا في حال اليأس مثل ما هددت بإغلاق مضيق هرمز حين أنهكتها العقوبات الدولية فرفعت عقيرتها وسيّرت حشودها ثم انقضى أمرها إلى الصمت. حاولت في سورية أن تقلب المعادلة لمصلحة نظام الأسد، فزجّت بألويتها وانتدبت «حزب الله»، وأمرت المالكي بدفع ميليشياته إلى سورية، ومع ذلك يترنّح النظام المدعوم يوماً بعد آخر كأن هذه المساندة تحارب ضده وليست معه. ظنّت أنها سيطرت على العراق، فأيقظت فتنة مقيتة لم يسبق أن شهدها العالم الإسلامي، ولا أحد يعلم متى ينجو العراق منها.
تزعم محاربة الإرهاب وهي الراعية والقاعدة منذ أن كانت ملجأ رموز «القاعدة» نكاية بالسعودية تحديداً، وتشجيعاً على الفوضى فيها. تصطدم الآن مع تركيا في حرب جديدة اسمها «المنطقة العازلة». تهدّد بدخول الأراضي الباكستانية لملاحقة الجماعات الجهادية، وكأن باكستان إحدى جمهوريات الموز. تدخّلت أصابع طهران في كل بلد حتى لم تعد تستطيع تحريك يدها، فكأنما كبّلت ذاتها وأحرقت كل طموحاتها، خصوصاً أنها تعيش اقتصاداً منهاراً تغطّيه بدخان التدخلات الخارجية استثارة للقومية والوطنية، وتأجيلاً لانفجار الأزمة الداخلية، ولربما تجرأت على بعض المناوشات العسكرية تدعيماً لذلك. بالطبع لا يمكن الاستخفاف بالسياسة الإيرانية، فهي طويلة النفس في التخطيط، وصبورة على ترقّب النتائج كما هو فعلها مع الحوثي، إلا أن نقطة حرَجها المركزية أن رهانها آيديولوجي صرف، فلا تختلف عن «داعش» سواء كانت نبتتها أو ثمرة سقايتها.
كثيرون يشعرون أن إيران تخنق السعودية وأنها سيطرت عليها من كل جانب. هذه رؤية قاصرة، لأن مشكلات طهران تفوق الرياض بمراحل، فلا صديق يدعمها بما في ذلك روسيا، أما أصدقاؤها الآخرون فهي في حاجة إلى إنقاذهم من مشكلاتهم قبل أن تثقل كاهليها. طريقة إيران الثابتة تعدّد مستويات خطابها فلا تكشف وجهاً واحداً إنما أقنعة كثيرة يكذّب بعضها بعضاً، فلا تعتمد موقفاً ثابتاً أو لغة واضحة مثل لغتها الزئبقية في مفاوضات النووي، فلا يمكن معرفة مدى جديتها ومدى تراخيها. الحملة الإعلامية من إيران على السعودية دلالة ارتباك وغيظ بعد اليقظة السعودية، وتجاوزها حال الصمت والمراقبة إلى وضع العمل والحركة، ما أخلّ بكثير من التوازنات السابقة وأعاد الأوضاع إلى حال متداخلة من الضبابيّة والغموض. السعوديّة لها مشكلاتها، لكنها بالتأكيد أكثر تماسكاً واستقراراً من طهران. وهي أكثر جرأة منها، لأنها أعلنت منذ 2003 موقفاً صارماً من الإرهاب، بلغ مداه بالمشاركة في التحالف ضد الإرهاب، بينما الخطاب الإيراني يزعم ذلك، لكنه يوقظ كل فتنة نائمة من دون أن ينتبه أنها قد تنقلب عليه.
جاسر الجاسر
المصدر صحيفة الحياة
تنويه: تم استخدام التسمية الصحيحة لوطننا الأحواز