الكراهية القادمة من إيران
لا أحد يستطيع أن ينكر في هذا الوقت الرّاهن والحرج من عمر الأمة الإسلامية أن حجم الكراهية يتصاعد في العالم العربي والإسلامي بما لم يسبق لها مثيل، وأن أطرافاً عديدة ومختلفة ساهمت في تأجيج وإشعال هذه الكراهية التي تتّخذ عدة صور لتدمير المنطقة والتمكين لمشاريع معادية فيها.
انتشار الكراهية هي أخطر الأوبئة التي تفتك بكل قيم الوحدة والتعاون والتآلف في المجتمعات مهما كانت ديانتها أو عرقها أو لغتها أو جنسيتها، ولو عدنا بنظرة بسيطة إلى التاريخ، سنجد أن أغلب الإمبراطوريات والحضارات التي شهدها البشر انقرضت بمجرد أن تأجّجت الكراهية فيها، وتصاعدت حتى وصلت إلى وباء جاء بالدمار ثم النهاية.
كل الدول الاستعمارية تعزف على وتر الكراهية بوسائل مختلفة، حيث تحاول زرعها بين الشعوب التي تحتلّها حتى لا يستطيع المواطنون أن يتوحّدوا ويقرّروا مصيرهم أو يواجهوا هذه القوى الغازية. لقد عمل المستعمر الغربي على بثّ النعرات القبلية والعشائرية والدينية والمذهبية والعرقية واللغوية والطائفية، وبفضلها جثم على الصدور لسنوات طويلة، ولكن بمجرّد أن تنجح الشعوب في تفويت الفرصة عليه وتُدمّر تلك المخطّطات الكريهة والماكرة تُحقّق لنفسها الاستقلال وتنال حريتها.
فالاستعمار لا يستمر إلا بكراهية يزرعها بين من يستعمرهم، والأمر نفسه بالنسبة للأنظمة الطاغية فهي تعمل على بثّ هذه الكراهية بين أبناء الوطن الواحد حتى لا يتوحّد المواطنون ويواجهوا الطغيان والاستبداد، لذلك الطغاة حكموا شعوبهم بروح العصبية القبلية أو العشائرية أو الدينية ولم تنجح الشعوب في تحرير نفسها إلا بعدما تحرّرت من هذه الأوبئة التي زرعها الطغاة.
أذكر في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر، أن الكثير من السوريين خلال جولاتي في البلاد العربية وأوروبا وأمريكا، أخبروني أنهم قبل ثورة مارس/ آذار 2011، وصل حالهم إلى تفادي بعضهم بعضاً. وكان السوري لا يلتقي مع السوري إلا في حدود معيّنة لتفادي الشبهات الاستخباراتية؛ لأنه لو أحدهم يخبر السفارة ولو كذباً عن لقاء ما ضد النظام، سيتم اعتقالهم في المطار عند عودتهم ويتعرّضون لمضايقات كبيرة قد تصل لدرجة تعذيبهم وسجنهم لسنوات. وهذا كله بسبب تلك العقلية الأمنية التي فرضها نظام الأسد على الشعب السوري على مدار نصف قرن تقريباً.
لقد أدرك من يقفون خلف إيران أنه لا يمكن تدمير المنطقة العربية إلا من داخلها ومن عمق الإسلام بالضبط، وهذا لا يمكن الوصول إليه إلا بزرع الكراهية وجعلها تفكّك أواصر الوحدة الدينية والوطنية والقومية وحتى الإنسانية بين أبناء الوطن الواحد. وأخطر ما في الكراهية لما تعطى لها أبعادها الدينية غير المشروعة ففي هذا الحالة تتحوّل إلى قنبلة إرهابية موقوتة بمعنى الكلمة تدمّر كل شيء.
بعيداً عن نظرية المؤامرة التي تهيمن على عقول الكثيرين حتى تحوّلت بدورها إلى وباء زعزع الثقة بين الأفراد والجماعات والشعوب والدول، فإن المخطّطين الاستراتيجيين أدركوا تمام الإدراك أن محاولات بثّ الكراهية من خلال القوميات بين العرب والأكراد والأمازيغ وغيرهم لم تحقق أهدافها المرجوّة رغم مرور سنوات طويلة من العمل في هذا الإطار، لذلك رسموا لطهران مسار تصدير ثورة الخميني التي تتخذ من الشيعة قناعاً، وقد وجدوا في التشيّع ما يحقّق غاياتهم من بثّ روح الكراهية الدينية والقومية المدمّرة للإنسان العربي وأوطانه وهو ما أراده الخميني الذي حلم برفرفة علم طهران الصفوية في كل العواصم العربية.
حدث ذلك بعدما عجزت الشيوعية في تحقيق غايتهم من خلال نشر الإلحاد لدى الكثيرين من الشيوعيين، وجعل قبلتهم في موسكو التي تعتبر صهيونية أكثر من "إسرائيل"، وهذا الكلام سمعته من خبراء ومسؤولين وضباط مخابرات سابقين في أوروبا وأمريكا وبعض البلاد العربية.
أجهزة الاستخبارات المعادية للأمة العربية والإسلامية التي تريد بلا شك حماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة، وجدت أن التشيّع غنيّ بما ينشر أخطر كراهية في العصر الحديث، ولقد استلهموا ذلك من التاريخ سواء مع العبيديين أو الفاطميين أو النصيريين أو الصفويين وغيرهم.
فالدين الذي يأتي بسبّ مقدسات والطعن في عرض الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ويكفّر صحابته وكل ما يأتي منهم، لا يمكن أبداً أن يزرع الحبّ بين الشعوب الإسلامية التي في أغلبيتها الساحقة سنّية ودأبت على تقديس الرسول وصحابته، ولهذا عمل الذين يريدون تدمير المنطقة على دعم إيران تحت الطاولة وفوقها، أظهروا العداء ولكنهم في الأصل سهّلوا لأخطبوطها كي يتمدّد عبر أنظمة خاضعة وخانعة لا تهمها سوى بقاء الحاكم في عرشه ولو أدى ذلك لتدمير الإنسان والوطن، ودائماً أؤكّد أن إيران لو لم تكن موجودة لعملت القوى المعادية للأمة الإسلامية على صناعتها بكل السبل والوسائل.
كما أنه توجد حركات إسلامية في الوطن العربي ساهمت في مساعدة المدّ الصفوي الفارسي، وللأسف الشديد بينها التي خدعت مثل غيرها من عموم الناس بمقاومة مزعومة أو دعم مرحلي من ملالي إيران.
الكراهية زرعتها إيران من خلال وصايتها المعلنة على الأغلبية الساحقة من الشيعة العرب، ولا يستثنى إلا أقلّية هي بدورها محلّ اتهام لدى الجانب السنّي باستعمال التقية، ونجحت في تأميم أهواء وعقول نسبة لا يستهان بها من المواطنين العرب الذين صارت قبلتهم في طهران بدل عواصم أوطانهم، وهو نفسه الذي كان يجري من قبل مع موسكو عندما كانت الشيوعية تتمدّد قبل انهيارها.
لقد تمكّنت هذه الكراهية من صناعة حروب أهلية وطائفية مدمّرة، وللأسف الشديد وقودها هم من العرب والمسلمين فقط، ونجد قوى لديها مصلحتها في إعادة رسم خريطة المنطقة مرة أخرى لمواصلة السيطرة على الثروات والتحكّم في مصائر الشعوب التي لديها تطلعاتها التحريرية الطبيعية مثل غيرها، هذه القوى هي التي ساهمت في تأجيج الحروب وإشعالها تحت مسمّيات مختلفة، لكنها في النهاية هي مجرّد حروب نجسة تأتي على تدمير المنطقة العربية، مما يسمح للغربان من معمّمين وحاخامات أن ينعقوا بما يشاؤون على الأشلاء والخراب القائم.
لم تقتصر الكراهية على جانبها المذهبي والديني فقط، حيث تجد كل صاحب فكرة يلغي الآخر بكل قوته ويكفره ويخوّنه ويخطّط لتصفيته ومحوه من الوجود، بل تعدّت إلى كراهية متعددة لأسباب عرقية ووطنية وقومية، فهذا يحمل جنسية بلد عربي يجد من يحرّضه على أبناء وطن آخر، بدل العمل على الوحدة التي هي الخيار الوحيد لمواجهة تحديات العصر، والأدهى والأمر أنه في الوطن الواحد تجد الموالين للحكام والمعارضين، فهذا يدعوا إلى كراهية ذاك، ولم نسمع إلا نادراً عن خلاف التنوّع الذي يبني الأوطان كما في الغرب ولا يدمّرها مثلما يجري في الشرق.
لقد بلغت الكراهية بين الحاكم والمحكوم ذروتها بسبب فساد الأنظمة وظلمها للشعوب واستبدادها وقمعها الذي تجلّى في أبشع الصور، كما أنه يوجد بين الشعوب من لا ينظر إلا للكأس الفارغة، وهكذا توسّعت الهوة وتخندق كل طرف في الجهة التي تخدم أجندته ولم نشهد غير استئصالية واستئصالية مضادة بين كل الأطراف المتصارعة، ولا نجد إلا القلة تتخندق لصالح الوطن والمواطن، وبذلك اشتعل العالم العربي بثورات شعبية سرعان ما تحوّلت إلى حروب أهلية دمّرت الإنسان تدميراً لم يسبق له مثيل، استفادت منها أنظمة مستبدّة في الحفاظ على كيانها وأخرى لم تتحرّك شعوبها التي صارت تخاف من تغيير يأتي على حساب الأرواح والممتلكات.
عندما أتابع مواقع التواصل الاجتماعي صرت أشمّ رائحة الكراهية تفوح من حسابات العرب والمسلمين، وإن كنت أدرك أن أجهزة سرّية تقف خلف الكثير من الحسابات التي تحرّض على هذه الكراهية بمختلف أنواعها وتقوم بتأجيجها لحسابات استخباراتية خطيرة للغاية، إلا أنني في أرض الواقع أدرك أن دعاة الكراهية نجحوا لحدّ بعيد في زرعها، ولو لم يتحقّق لهم ذلك ما رأينا كل هذه الدماء التي تنزف في سوريا والعراق ولبنان ومصر وليبيا وقبلها في الجزائر وغيرهم، وستنزف في أوطان أخرى مستقبلاً لا قدّر الله.
لقد نجحت إيران أن تحمي نظام الأسد لما نفخت في الحرب الطائفية التي عمل على إشعالها منذ بداية الثورة في مارس/ آذار 2011، وبها تشتّت لحدّ ما شمل الثوار والمعارضة التي كانت تعطي نموذجاً حيّاً عن التلاحم وحبّ الوطن والتغيير واستعادة الكرامة والعزّة والحرية، ولكن بسبب تلك الكراهية التي زرعت بينهم عبر وسائط التواصل ووسائل أخرى، جعلت التناحر بين الفصائل المعارضة، ودخلت جهات أخرى ديدنها أنها تولد من رحم المستنقعات القذرة فقط.
كما نجحت أيضاً في تدمير العراق باستعمال شيعتها ضدّ سنّتها، وبذلت كل ما في وسعها لتأجيج الكراهية بينهم وصلت حدّ عمليات إرهابية تقف خلفها المخابرات الإيرانية تستهدف الشيعة وأخرى تستهدف السنّة، وبالدعاية الإعلامية تجعل هذا يتهم ذاك، وكله من أجل تدمير البلد الذي حارب إيران على مدار ثماني سنوات لما كان الخميني على رأس الدولة الفارسية في طهران.
الأمر نفسه يتكرر في لبنان من خلال "حزب الله"، وفي اليمن عبر "أنصار الله"، ويجري في البحرين بواسطة شيعة خامنئي، وسيتمدّد إلى أقطار أخرى على رأسها السعودية ومصر والجزائر والأردن، حيث نجحت إيران في صناعة أقليات شيعية عربية موالية لها وتتحكّم فيها تحكّماً دينياً في إطار ما يعرف بـ"ولاية الفقيه" واستخباراتياً عبر تغلغل الجهاز الإيراني في أوساط الشيعة العرب، حتى صار كل شيعي عربي مجرّد عميل لصالح مخابرات خامنئي عبر مرجعية معيّنة من حيث يدري أو لا يدري.
لقد تحقّق من خلال كراهية تركض من طهران إلى وهران ما يصبون إليه في تدمير المنطقة العربية لصالح مشرع صفوي وتوأمه صهيوني لا يمكن أن ينجح في بناء دولة تمتدّ من الفرات إلى النيل إلا بما تقدمه طهران حالياً. وأخشى ما أخشاه أن هذه الكراهية المتأججة ستصل بالمواطن العربي ويصير إما قتيلاً أو قاتلاً لا خيار ثالث بينهما وتلك كارثة بمعنى الكلمة.
في الأخير سأبقى أؤكد دائماً أن التعايش هو الخيار الوحيد لصيانة الأوطان من أيّ كراهية مهرّبة عبر الحدود تؤدي إلى دمار شامل، كما أن الذي لا يستطيع أن يكون مواطناً صالحاً في دولته الصغيرة لها حدود لا يمكنه أبداً أن يكون كذلك في أمة عظمى لا حدود لها، وهذا ما يفرض علينا أن نتعلم ممارسة المواطنة الفعلية في ظل دولة القانون في أوطاننا الصغيرة، حيث واجب على كل واحد أن يصون حقوق غيره.
وهذا لا يمكن أن يتأتّى إلا بإرساء دعائم دولة العدالة والحقّ وتكافؤ الفرص بين كل المواطنين، ودون ذلك فإن بلادنا ستبقى لا تنتج سوى الكراهية والكراهية المضادّة لدرجة استقطاب مدمّر يأتي على ما تبقى من بقايا الإنسان والأوطان.
انور المالك
المصدر:خليج اونلاين