العصرُ الجاهلي والفخُّ الشعوبي
لا يُبنَى الحائطُ من حجرٍ واحد… مثلٌ روسيٌّ
يؤسفني ما قيل عن هذا العصر عند القدماء والمُحدثين، يُسود بسببِهِ وجهُ القرطاس، ولكن حينما نضعُهُ في ميزان الحقِّ العلميِّ فإنَّ كثيراً من هذه الأقوالِ تبدو متهافتةً!!
ولقد قادتهم نظرتُهم القاصرةُ إلى أنَّ عظمةَ الاسلامِ لا تظهرُ إلاّ على حساب العصرِ الجاهليِّ والحطِّ
منه ونعتِ أهلِهِ بالحفاة العراة، والبدو، وغلاظ القلوب!!
معتمدين على روايات شعوبية لم تكن في حقيقتها إلا فخاًّ نَصَبَهُ لهم الشعوبيون، ويكون على شكلِ رسمِ
صورةٍ نمطيةٍ سلبية، لأهدافٍ بعيدةِ المدى، ونذكر منها النقاط الآتية:
1- التَّنفيس عن أحقادِهم على العرب.
2- تشويه صورةِ العربيِّ، والرسالةِ التي يحملها.
3- انعكاس الصورة البيئية لهؤلاء الحفاة، والقيادة التي أرسلتهم.
4- محاولة إقناع المتلقي في نهاية المطاف بأنَّ الذين فتحوا فارسَ والأقاليمَ الأخرى هم من هذه النوعية غير المؤهلة لنشر رسالةٍ حضاريةٍّ بأيّ حالٍ من الأحوال.
5- محاولة تمريرِ الأكاذيبِ التي تسيءُ للفاتحين على المتلقِّي الذي سيكون بدوره مستعداًّ لقبولها بعد رسمِ هذه الصورة النمطية السلبيَّة.
ومَنْ يتتبّعِ الموضوعَ يصلْ إلى نتيجةٍ مفادُها أنَّ هذا التشويهَ يمثِّلُ حالةً مستديمةً لم يعرفِ العربُ التعاملَ معها عبر تاريخِهم الطويل كونَ نظرتهم للعالَم دينيةً فقهيةً لا غير!!
فهذا ميرزا الحائري يصفُ الصحابةَ الفاتحين لبلادِ فارس: بأنَّهم “أعراب بدائيون، أوباش خشنون، عباد شهوات، وعطشى إلى عفَّة الفارسيات، ألحقوا الدمارَ بالمدنِ الجميلةِ والأراضي العامرة “. كشف الجاني ص52
أمةُ علمٍ لا أمةُ جهلٍ منذ فجرِ التاريخ
——————————
وهناك حقيقةٌ يعرفها الدارسون والقرّاءُ أنَّ العربَ في العصر الجاهلي تميّزوا بعلومٍ كثيرةٍ عن غيرهم من الأمم.
مثل الفراسة، والقيافة: وهي ضربٌ من الفراسة تعني الاهتداء بآثارِ الأقدامِ على أربابِها، ومعرفة عمرِهِ وجنسِهِ وإنْ كان شيخاً أو شاباً، ومعرفة الأعمى من البصير، وكتبُ الأدبِ زاخرةٌ بهذا النوع من القصص إضافةً إلى علمِ الأنواء: وهو الاهتداء بالنجومِ، والأنساب، والطب، والشعر، والخطابة.
فكيف لأمةٍ تملكُ كلَّ هذه العلومِ أنْ توصفَ بالهمجيَّةِ والبعدِ عن أيّ نشاطٍ حضاري!
لا عجب في ذلك، فساقي القوم آخرهم شرباً.
ويقول شاعرُ ألمانيا العظيم غوته عن المعلقات في: ” تعليقات وأبحاث” < إنَّها كنوز طاغية الجمال.. ظهرتْ قبل الرسالةِ المُحمَّدية، ممّا يُعطي الانطباعَ بأنَّ القريشيين كانوا أصحابَ ثقافةٍ عاليةٍ، وهم القبيلة التي خرج منها النبيُّ محمد” بل إنَّ غوته تخيل نفسَهُ بالعربيّ الذي يسيرُ مع القافلة في الصحراء في إحدى قصائده ( الديوان الشرقي الغربي).
ثم لنا أيضاً أنْ نتسائلَ كيف لأمةٍ لا تملكُ ثقافةً ويصبح لها تأثيرٌ على الشعوبِ الأخرى بل وسحرها بثقافتها ولغتها وشعرها كما حدث مع الفتح الإسلامي.
ولشيخ المستشرقين الألمان نولدكه قولٌ كبيرُ المعنى يقول فيه: ( إنَّ الحركةَ الهلينيةَ لم تمس من الحياة الفارسيّة إلا السطحَ والقشور، بينما استطاع الدينُ العربيُّ، والحياةُ العربيّةُ أنْ ينفذا إلى قرارةِ الحياةِ الإيرانية ولبابها).
ولاحظ أيها القارئ الكريم أنَّ اليونانيّين بحضارتِهم العظيمةِ وآثارِهم العلميّةِ في الفلسفة، والطب، والشعر لم يستطيعوا التأثير علي الفرس كما أثّر العربُ فيهم على الرغم من استعمارهم لفارس أي اليونان اكثر من 180 عاماً!!
وانطلاقا ممّا سبق، ومن قراءاتٍ كثيرةٍ أقولُ وبكلِّ ثقةٍ أنَّنا لو عملنا مقارنةً بين العربِ في جاهليتهم والفرس قبل الإسلام لوجدنا العربَ أكثرَ ثقافةً، وعلماً، وأدباً، وأنَّ نسبةَ الأميةِ في بلاد فارس تصلُ إلى أكثر من 90% متخطيةً كافةَ شعوب المنطقة بجهلها!!
فالعرب لهم خطوط وحروف، وتراثهم الجاهلي يدرس إلى الآن في أعرق الجامعات فضلاً عن وجود أنبياء من العرب.
وغير العرب أَثّروا في المجتمعات بثقافتهم، وعلمهم، وخلقهم بخلاف الفرس الذين اعتنقوا الزرادشتية، فزادتهم جهلاً وضلالاً.
وكما قال شاعرُ العراق الرصافي:
هي الأخلاقُ تنْبتُ كالنَّباتِ **** إذا سُقيتْ بماءِ المكرماتِ
كتب/ عبدالله الضحيك
المصدر: القادسية