عن جامعة الدول العربية التي ولدت ميتة!
شاركت مساء يوم السبت 2015/3/14 على قناة الجزيرة في برنامج "الواقع العربي" حول فاعلية الجامعة العربية وجدواها في الوقت الراهن. وقد أشاد كثيرون بكلامي الناقد لواقع هذه الهيئة الإقليمية. ويوجد أيضاً من انتقدها ويراني أقوم بجلد الذات، لأن العالم العربي في حاجة إلى جامعة مهما كانت عيوبها ونقائصها. من جهة أخرى قرأت للبعض من يراني أريد أن أنفخ الحياة في كيان ميّت منذ أكثر من سبعين عاماً.
يجب أن نؤكد أمراً هاماً؛ أن واقع الجامعة العربية هو من واقع الدول التي تجتمع تحت قبّتها وتشكل كيانها، وواقع هذه الدول من واقع أنظمة تحكمها، لذلك لا يجب أن نسلّط كل اللوم على هذه الهيئة ونتجاهل واقع من يشكلون أركان وجودها.
* جامعة في الشكل ومفرقة في المضمون
منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، لم تقدّم للعالم العربي ما ينفعه، سواء تعلّق الأمر بالنزاعات أو التحديات الإقليمية والدولية، وقد تحدّثت وثيقة للمخابرات الأمريكية صدرت منذ أكثر من خمسين عاماً، "أن النجاح الوحيد لجامعة الدول العربية أنها استطاعت أن تنسّق آراء الحكام العرب في قضية فلسطين".
لقد كانت قضية فلسطين هي التحدي الأساسي بالنسبة لجامعة الدول العربية، وتجلى ذلك في ميثاقها التأسيسي، غير أن ذلك لم يتجاوز الجانب النظري، في حين لم تظهر أفعال الجامعة أي خطوات لمصلحة هذه القضية، بل إنه منذ تأسيسها إلى غاية 1963 اتخذت 589 قراراً لم تتجاوز الحبر الذي كتبت به.
لم يقتصر الأمر على فلسطين التي لا تزال محتلة إلى يومنا هذا، بل توجد قضية الأحواز التي جرى احتلالها من طرف إيران الفارسية قبل فلسطين، وحتى قبل تأسيس جامعة الدول العربية، غير أن القضية لم تجد لها مكاناً في تجمع العرب الذي تشكّل في وقت كان التحرّر من الاستعمار أولى الأولويات.
كما أن المنطقة العربية شهدت عدة نزاعات فشلت في حلّها جامعة الدول العربية، مع أن المادة الخامسة من ميثاقها تشير إلى أن الجامعة تقوم بدور الوسيط أو التحكيم الاختياري في حال نزاعات بين دول عربية.
نذكر على سبيل المثال قضايا حدودية اشتعلت بين مصر والسودان عام 1958، بين الجزائر والمغرب عام 1963، بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي عام 1972. كما شهدت صراعات بين أنظمة عربية ترى نفسها تقدمية أخرى محافظة، بما جعل كيان الجامعة يترهّل في أحلك الظروف العربية.
حتى في حال نجاح جامعة الدول العربية في حل نزاعات ما، فغالباً ما يكون نسبياً أو مؤقتاً، ونذكر على سبيل المثال النزاع العراقي الكويتي عام 1961، فقد نجحت جامعة الدول العربية في ذلك الوقت حيث أوجدت تسوية وتدخّلت قوات الطوارئ العربية عام 1961، غير أن التسوية لم تستمر، وتكرّر النزاع عام 1973، وتدخّلت الجامعة مجدّداً عبر أمينها العام، وتمّ تشكيل هيئة مختلطة لترسيم الحدود، ولكن ذلك لم يستمر، وتجدّد النزاع عام 1990 أدّى إلى غزو العراق للكويت، وكان الحل في تدخل دولي لم يضع حدّاً للقضية إلى يومنا هذا، مما يرجّح عودة النزاع مستقبلاً حين تتغيّر ظروف المنطقة.
حتى النزاع الجزائري المغربي عام 1963 بخصوص الحدود، جرى حلّه بمبادرة ثنائية بين الملك الحسن الثاني والرئيس هواري بومدين، من دون دور لجامعة الدول العربية، وإن كان الحل مؤقتاً بدوره ولا يزال إلى يومنا هذا يلقي بظلاله على مشهد العلاقات الثنائية بين الرباط والجزائر، ويرجح أن يتطوّر إلى نزاع آخر مستقبلاً.
لقد أكّدت دراسات تابعت دور جامعة الدول العربية، أن حل النزاعات خلال الفترة الممتدة من عام 1945 إلى 1981 يأتي عن طريق الاتفاق الثنائي بين الأطراف المتنازعة بنسبة تقارب 84 بالمئة، وبحوالي 10 بالمئة عن طريق وساطة بلد عربي، في حين أن ما تبقى من النسبة اقتصر على دور جامعة الدول العربية، ولكن الحل كان نسبياً ومؤقتاً كما سبق ذكره.
لم يقتصر الأمر على دور شكلي، بل توجد نزاعات أخرى تجاهلتها الجامعة؛ مثل النزاع السوري اللبناني عام 1949، حرب الخليج الثانية عام 1990، إذ إن المادة 52 من ميثاق الأمم المتحدة تشجع على حل النزاع في إطار تنظيمات أو وكالات إقليمية مثل جامعة الدول العربية، لكنها ظلت غائبة، بل وصل بها الحال في مؤتمر القاهرة لدرجة أن سيطرت قضية نقل مقر الجامعة من تونس إلى العاصمة المصرية وكأن ذلك أهم مما يجري في الخليج العربي من حرب لا تزال تداعياتها ممتدة إلى يومنا هذا.
فشل الجامعة في حل النزاعات ومواجهة التحديات التي تتعرض لها الأقطار العربية، يعود إلى ميثاقها القاصر الذي لا يعطي أي دور فعال في الحالات الطارئة والاستثنائية، وقد جرى تحرير الميثاق في ظروف كانت الدول العربية المستقلة هي سبع فقط، في حين ما تبقى من الدول العربية توزعت بين الاحتلال والانتداب الأجنبي.
لا يمكن أن تنجح جامعة الدول العربية في حلّ أزمات الأقطار العربية وهي لا تملك أدوات لفرض نفسها على الجميع، فلا محكمة عدل عربية، ولا قوة عسكرية عربية، حتى الحالات التي أرسلت فيها الجامعة قوات عربية مشتركة كانت تحت اتفاق بين أطراف النزاع.
حدث ذلك مرتين في تاريخ هذه الجامعة، المرة الأولى أثناء النزاع العراقي الكويتي عام 1961، وسميت القوات التي أرسلت حينها "قوات الطوارئ العربية" أو "قوات الجامعة العربية"، والمرة الثانية أثناء أزمة الحرب الأهلية اللبنانية، وسميت القوات حينها بـ "قوات الطوارئ العربية"، أو "القوات العربية الرمزية" ثم بعد تعزيزها سميت "قوات الردع العربية".
لم يقتصر الخلل في جامعة الدول العربية على ميثاقها، بل يوجد بطء كبير في التحرك الدبلوماسي العربي، فمثلاً عام 1958 خلال أزمة مصر ولبنان احتاج مجلس الجامعة العربية إلى عشرة أيام حتى ينعقد، وعند نشوب الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 لم يجتمع مجلس الجامعة إلا بعد مرور ستة أشهر من بداية الأزمة، في حين أن مجلس الأمن اجتمع في أقل من 24 ساعة بعد إبلاغه.
* "الربيع العربي" الذي فضح الجامعة
مع اندلاع ثورات "الربيع العربي"، وجدت الجامعة نفسها في مواجهة تحديات كبرى أدت إلى سقوط أنظمة في كل من تونس ومصر بالمظاهرات الشعبية.
أما ليبيا فقد قامت الجامعة بتدويل مباشر للقضية من دون أدنى وساطة، وبما يتنافى مع ميثاقها الذي يعطيها الأولوية في مواجهة الأزمات، وكانت سابقة في دعوة الأمانة العامة للمجتمع الدولي للتدخل العسكري ضد نظام الديكتاتور معمر القذافي الذي كان يستعد لحرق مدينة بنغازي وإبادة أهلها، وبذلك أعطت الجامعة الغطاء "الشرعي" لحلف الناتو كي يقصف المدن الليبية ويسقط نظاماً كان قائماً وأحد أعضاء هيئته عمرو موسى حينها.
لكن مع اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد في مارس/آذار 2011، لم تتحرك الجامعة إلا بعد أشهر، حيث سقط أكثر من 5 آلاف مدني، وكانت البداية بتجميد عضوية سوريا، وهو التجميد الثالث في تاريخ الجامعة بعد مصر والأردن.
كما أن الجامعة فرضت عقوبات اقتصادية على النظام السوري، وكل ذلك يجري خارج ميثاقها الذي وقف عاجزاً ومكبلاً أمام ما يجري في الوطن العربي من ثورات، بينها التي تحوّلت إلى حروب أهلية مدمرة.
بعدها قامت جامعة الدول العربية بتحرير بروتوكول لا يتماشى مع الواقع، تمّ توقيعه في 2011/12/19 بين حكومة الأسد والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وأرسلت بذلك بعثة لمراقبين هي الأولى من نوعها في تاريخ الجامعة منذ تأسيسها عام 1945.
غير أن البعثة كانت فاشلة منذ بدايتها، حيث تم اختيار جنرال سوداني تلاحقه تهمة تتعلق بانتهاكات لحقوق الإنسان في دارفور، كما أن المراقبين في أغلبيتهم الساحقة من ضباط مخابرات ودبلوماسيين من مختلف الدول العربية كان ولاؤهم لحكوماتهم التي تتناقض مواقفها بخصوص ثورة سوريا، مع وجود عدد قليل جداً من الحقوقيين الذين ينتمون لمنظمات غير حكومية تعمل مع جامعة الدول العربية وتتلقى الدعم منها أيضاً.
فشلت البعثة قبل بداية عملها، والقصة الكاملة رويتها في كتابي "ثورة أمة: أسرار بعثة جامعة الدول العربية"، الذي صدر عن مكتبة العبيكان في المملكة العربية السعودية، وكنت أحد المشاركين في هذه البعثة لكنني أعلنت استقالتي وأنا في حمص بتاريخ 2012/1/6، وغادرت دمشق في 2012/1/10 احتجاجاً على تلك المهزلة التي جاءت على حساب شعب يذبحه نظام بشار الأسد بوحشية لا نظير لها.
بعد فشل البعثة قامت الجامعة بتحويل الملف إلى الأمم المتحدة، وكان ذلك عكس ما تحدث به أمينها العام نبيل العربي في اجتماعه مع بعثة المراقبين بتاريخ 2011/12/6، الذي رفض حينها تكرار تجربة ليبيا التي جرى فيها تدويل القضية، ووصل الأمر إلى تدخل عسكري لحلف الناتو لم يتوقف إلا بمقتل العقيد الليبي معمر القذافي.
* أين الخلل يا ترى؟
كما ذكرنا أن ميثاق الجامعة صار لا يتماشى مع متطلبات الراهن العربي الذي تشتعل فيه النزاعات عبر صور وأشكال أخرى، بينها التي تجري للحكام المستبدّين مع شعوب تتطلّع للحرية وتقرير المصير.
الخلل الآخر هو اختزال الدول في أنظمة حاكمة، حتى تحوّلت جامعة الدول العربية إلى جامعة أنظمة عربية فقط، حكامها لا يعيرونها أدنى احترام. لذلك لا يمكن أن تنجح هذه الهيئة وهي مجرد سكرتاريا للحكام العرب، يلتقون كي يتفقوا على موعد اللقاء القادم، ومكان انعقاده، ثم يحتفلون باستمرار حكمهم.
ولم يشهد أي نجاح للقمم العربية ولا في اجتماعات وزراء الخارجية العرب، والنجاح الدائم لما يجتمع وزراء الداخلية ويتفقون على خيارات أمنية ضد شعوبهم تحت مظلات مكافحة ما يسمى بالإرهاب ومشتقاته.
جامعة الدول العربية تحتاج إلى تطوير حقيقي وعاجل، حتى تتحوّل إلى جامعة للشعوب والأقطار وليست للأنظمة الحاكمة التي تستغلها للحفاظ على وجودها ولو كانت مستبدة وطاغية وتذبح شعوبها في مجازر على المباشر.
كما يجب أن يتطور العمل العربي المشترك في مثل هذه الظروف التي تختلف على ما كان عليه شأن العالم العربي في القرن الماضي، ووجب أن تكون هناك محكمة عدل عربية وبرلمان عربي وجيش عربي مشترك وهيئة لمتابعة تنفيذ القرارات يشارك فيها المجتمع المدني، ويجب تعديل ميثاقها بما يتماشى مع حقوق الإنسان والديمقراطية ويحمي الشعوب من الاستبداد والطغيان، ودون ذلك ستبقى مجرد هيئة ميتة كما ولدت، لا تقدم ولا تؤخر شيئاً في الأزمات القادمة التي ستكون أكبر بكثير مما يعيشه العرب في هذا الراهن الصعب والمعقد.
في الأخير، أذكر أن كريس دويل، مدير مجلس التفاهم العربي البريطاني "كابو"، وصف جامعة الدول العربية بالقول: "الكثيرون يرون أنها لا علاقة لها بالواقع، حيث إنها تعكس فقط أهواء الحكام وليس آراء الشعوب، وأنها لا تستهدف سوى الحفاظ على أوضاع ما بعد الاستعمار، فحتى القادة العرب لا يعبؤون بها في الغالب".
انور مالك
المصدر :الخليج اونلاين