تأملات عابرة في راهن الإسلام والمسلمين (1)
نسمع دائماً من أطراف كثيرة أنهم يريدون إسلاماً جزائرياً، وآخرون يريدونه تونسياً أو ماليزياً أو مصرياً أو تركياً أو مغربياً… إلخ. ويوجد من لا يريد ما يسميه الإسلام السعودي لأنه "وهابي"، أو أنهم يحاربون الإسلام الأفغاني لأنه إرهابي أو "داعشي".
وذاك يزعم أن إسلامه الذي تربّى وترعرع عليه من خلال المذهب الرسمي في بلاده هو الذي جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام، ما دونه باطل وضلال وخروج عن الملة المحمدية.
لم يقتصر الأمر على العقلية القطرية في تقزيم الإسلام فقط التي تهيمن على الحكام والمحكومين، بل تعدى إلى أن هذا يقول إنه يريد إسلاماً علمانياً، وآخر يريد إسلاماً سلفياً، ويوجد من يريد إسلاماً إخوانياً أو صوفياً أو حتى شيعياً أو وطنياً أو ربما شيوعياً.. تعددت الأسماء والمسمّيات من أجل إسلام واحد يريده كل طرف على مقاس مذهبه أو توجهه الفكري والسياسي والحزبي أو مصالحه القومية والاستراتيجية.
حتى في الغرب، رأينا ومازلنا نرى من يريد أن يرى إسلاماً غربياً، حيث إن فرنسا تعمل كل ما في وسعها كي تصنع ما تسمّيه الإسلام الفرنسي الذي يجعل المسلمين الفرنسيين مندمجين ثقافياً وأخلاقياً، لدرجة أنهم يقبلون بإدخال فتياتهم عشاقهن لغرف نومهن من دون زواج كما قال لي أحد نواب البرلمان الفرنسي.
أمريكا بدورها تبذل الكثير من المال والوقت من أجل تسخير العقول، ليكون لها إسلامها الأمريكي الخاص بها، والذي يتماشى مع عقلية أمريكية همّها الهيمنة على كل مقدرات الشعوب الأخرى ولو كانت دينية.
"إسرائيل" في حد ذاتها تريد أن يكون لديها إسلام يهودي -إن صح التعبير- على ما تراها بأراضيها رغم أنها مجرّد كيان مصطنع في عمق الشرق الأوسط. ويجري هذا الأمر على الكثير من الدول والقارات والشعوب والأنظمة، وهذا بسبب أن الإسلام صار ظاهرة تفرض نفسها في عقر دار ألد الخصوم والأعداء فضلاً عن الأصدقاء.
ترى هل وجب أن يكون الإسلام على مقاس البشر أم البشر هو من يجب أن يكونوا على مقاس الإسلام؟
هل يجب تغيير كتاب الله وسنّة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام حتى تتماشى مع الذهنيات والعقليات المعاصرة وعادات البشر أم العكس؟
سذاجات ليبرالية وعلمانية..
بحكم معاشرتي الطويلة لليبراليين في الشرق والغرب، سمعت الكثيرين يلوكون ما لا يقبله عقل ولا منطق، فمنهم من يريدون أن يتخلّصوا من كتب إسلامية لها مكانتها، لأنها صارت لا تتماشى مع عصر التنوير والحريات المطلقة والديمقراطية الغربية على حد زعمهم. ويوجد بينهم من يرى أن تكفير اليهود والنصارى في القرآن الكريم لا يجب أن يستمر، فإما إلغاء هذه النصوص وجعلها غير صالحة لهذا الزمن أو تأويلها بما يتماشى والقوانين الدولية التي تفرض التعايش بين كل الملل والنحل، وتجرّم العنصريات الدينية والعرقية والطائفية.
بل وصل الأمر بـ "حقوقي" ليبرالي عربي، أن اعتبر النصوص الشرعية التي تتحدث عن التعذيب يوم القيامة، هو نوع من الترويج للجرائم ضد الإنسانية والعياذ بالله. بل وصل الأمر بآخر إلى أن طالب بمراجعة الموروث الإسلامي وحرق الكتب الإسلامية، خاصة مؤلفات ابن تيمية التي تحرّض على الكراهية والعنف والإرهاب كما يدّعي!
أما كتب أخرى فيجب أن توضع في المتاحف حسب رأيه، لأنها صارت في حكم التراث الذي يصلح فقط للمتاحف والسوّاح وليس للقراءة والتطبيق والعبادة!
لم يقتصر الأمر على ذلك، فقد قرأت لنساء غير محجّبات يحاولن الطعن في النصوص الشرعية المتعلقّة بالحجاب، بسب عقدتهن داخل مجتمعاتهن وفيها أكثر النساء محجبات أو محتشمات بلباس يتماشى مع عادات المنطقة، لذلك يحاولن إيجاد أي مخرج لوضعهن المرفوض اجتماعياً. وبينهن من يرون أن العري والطعن في المقدسات حرية شخصية التي لم يحاربها الإسلام بل حثّ عليها.
بلا شك أن الإسلام لو لم يكن له قوة التأثير في المجتمعات العربية والغربية ما وجدناهم يحاولون اختزاله فيما يتماشى مع توجّهاتهم بعدما عجزوا في تشويهه، حتى لا يجدون أنفسهم في مواجهة دين الله تعالى الذي رغم الضربات الكثيرة والكبيرة التي يتعرّض لها منذ فجر البعثة إلا أنها ما زادته إلا قوة وتمدّدا وانتشاراً.
علمانية فضحت الكنائس!
أعيش في الغرب منذ سنوات طويلة، وتابعت ما يكتبه الغربيون ولم ألمس أن أحدهم قال يجب أن تكون النصرانية على مقاسنا أو أنهم طعنوا في اللاهوت الديني، على عكس المستغربين العرب الذين لا يفوّتون فرصة إلا ويطعنون في قيم الإسلام لكسب ودّ الغرب أو من أجل الشهرة والحصول على جوائز دولية لديها معايير معيّنة في أغلب جوانبها لا تتعلق بالإبداع الفكر والأدبي والإعلامي.
من جهة أخرى، إن الكنيسة لم يعد لها أدنى تأثير في المجتمع الغربي، ودائماً أقوم بزيارات للكنائس يوم الأحد حتى أرى واقعها عن كثب، والحقيقة المذهلة أنني لا أجد سوى العجائز والشيوخ وبأعداد قليلة جداً يتردّدون على الكنيسة لأداء صلواتهم الأسبوعية، رغم الخواء الروحي الذي يعاني منه الغربيون أدى إلى انتشار الأمراض النفسية وارتفاع درجات الانتحار.
ونذكر في هذا السياق، أن تقريراً لمنظمة الصحة العالمية الذي تصدره في كل عاشر من سبتمبر/ أيلول بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الانتحار، كشف أن عملية انتحار تتمّ في كل 40 ثانية في العالم، ما يمثّل حوالي مليون وفاة سنوياً، ويرجح أن يرتفع العدد إلى 1.5 مليون بحلول عام 2020. وأن في بريطانيا وإيرلندا وقعت 6003 حالة انتحار عام 2003 وهو ما يفوق حوادث المرور بثلاث مرات.
أرقام أخرى قدمتها جهات رسمية تشير إلى أن فرنسا تشهد 12 ألف حالة وفاة بسبب الانتحار سنوياً، أما في ألمانيا فقد أعطت وزارة الصحة رقم 12888 شخص أقدموا على محاولة الانتحار عام 1995. كما سجلت عام 2001 أرقام مرعبة نذكر منها: 87 ألفاً في الهند، 52500 في روسيا، 31 ألفاً في الولايات المتحدة الأمريكية، 12500 في ألمانيا، 11600 في فرنسا و11 ألفاً في أوكرانيا.
وقالت منظمة الصحة العالمية في تقرير أصدرته عام 2001 والذي تم تجميعه من مئة وخمس دول، أن النسبة السنوية المتوسطة للانتحارات ما بين 1950 و1995 قد انتقلت من 10 إلى 16 في كل ألف شخص، بزيادة بنسبة 60 في المئة. وحسب التقرير نفسه يبقى الانتحار مسؤولاً عن الموت أكثر من النزاعات المسلحة وحوادث السير في الطرقات، وفي كل مرة تسجّل المنظمات العالمية أرقاماً تثير القلق لأعداد المنتحرين.
وحسب خبراء الصحة في عدة دول غربية ومنظمة الصحة العالمية، ومراكز مكافحة ظاهرة الانتحار ومؤسسات المساعدة النفسية والاجتماعية في ألمانيا وفرنسا، فإن من بين أسباب الإقدام على الانتحار تختلف من فئة إلى أخرى.
ومن خلال بحث قام به المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي في فرنسا عام 2001 أن 33 % ممن سبق وحاولوا الانتحار كانوا يهربون من المنزل، و53 % يستهلكون الحبوب المهدئة بإفراط، و72 % مازوخيون و36 % كانوا ضحايا عنف جسدي و23 % ممن تعرضوا إلى عنف جنسي .
وتتركز أسباب الانتحار وسط المراهقين والشباب في الشعور بالعزلة، وافتقاد الحياة الأسرية السليمة والعاطفية، وعدم الثقة في المستقبل والفراغ، والعنف داخل الأسرة وإدمان الكحول والمخدرات والحبوب المهلوسة. أما بالنسبة لفئة المسنين فتعود أسباب انتحارهم إلى العزلة والتقوقع على الذات وفقدان الشريك والمساندة العائلية وتخلّي الأبناء عنهم.
طغيان النزعة المادية والخواء الروحي الذي يعيشه المواطن الغربي رغم الثراء والرفاهية والحياة المدنية التي بلغت أوجها من التطور والتقدم، هي من بين الأسباب الأساسية التي أدت إلى أزمات نفسية معقّدة تنتهي بقتل النفس في أكثرها، ويوجد من ينجو من الموت فيتجه نحو الإسلام وبينهم مشاهير مثل مطربة الراب الفرنسية ديامس.
وكما ذكرنا عن هجران الكنائس خصوصاً من المراهقين الذين هم الفئة التي تشهد أرقاماً هائلة من الانتحار. لقد وصل الحال إلى أن الكنيسة في الغرب تفتح أبوابها باقي أيام الأسبوع في حال وجود جنازة فقط، حيث تجري الصلاة على الميت ثم ينقل للدفن وينتهي دور الكنيسة الذي صار محدوداً للغاية، حتى بلغ الأمر لدرجة قرع أجراس الخطر بطرق مختلفة، ويجري التبشير بالنصرانية في الأسواق والشوارع ويطرقون حتى البيوت ويوزعون المنشورات، غير أن ذلك لم يؤت أكله.
لقد حارب الغربيون الكنيسة وتوجهوا نحو العلمانية بعدما تحوّل القسّيسون إلى أرباب يتحكّمون في مصير البشر ولقمة عيشهم، كما أن الدين الكنسي مجرد لاهوت لا يصنع الحياة أبداً، لذلك أنقذ الغرب نفسه من هذا العالم الخرافي المتخلّف بعلمانية وصلت به إلى قمة التقدم المادي.
وهذا أكبر محفز يجب أن يسعد قلوب المسلمين ويجعلهم لا يطعنون في العلمانية الغربية بديار الغرب طبعاً، وليس بديار المسلمين كما يفعل العلمانيون العرب الذي استهواهم التقدم الغربي فصاروا يرون أن حال المسجد مثل حال الكنيسة يعيق الشعوب ويمنع عنها التقدم والحضارة، وهي قمة الغباء العلماني العربي الذي لا يمكن تقدير حدوده.
انور مالك
المصدر:خليج اونلاين