مع شدة العقوبات الأمريكية على إيران خاصة على القطاع النفطي الذي يُؤْمِن دخل الدولة الإيرانية وبعد انخفاض مستوى التصدير الى ٨٠ بالمئة، صدر قرارا من أعلى السلطات في ايران لرفع سعر البانزين في الشهر المنصرم. أدى هذا القرار الذي أيده المرشد على خامنئي ومن ثم السلطات الأمنية في البلاد الى الضغط المتزايد على ساكني جميع الناس في هذه الجغرافيا ونتج عنه اندلاع ثورة وسيعة لم يسبق لها مثيل.
استهدفت هذه الثورة المتواصلة منذ أعوام رأس النظام والمؤسسات التابعة له وذلك في يوم ١٥ نوفمبر ٢٠١٩. تميزت هذه الثورة من غيرها حيث كانت منذ ساعاتها الأولى عنيفة وراديكالية وترجمت العنف فيها عن طريق:
– حرق البنوك التابعة لمؤسسات النظام والحرس الثوري والتي تمول مشاريع لا صلة لها بحياة الجماهير،
– حرق مقرات الحرس والتعبئة (بسيج)،
– حرق الحوزات العلمية كدلالة رمزية على رفض نظام الملالي،
– شل الحركة في المدن للضغط على النظام بغية تراجعه عن قراراته،
– وأخيراً حرق صور المرشد و رفع شعارات ضد رأس النظام والسعي لإسقاطه.
توسعت المظاهرات في كل المدن الإيرانية مما بلغت أكثر من ٥٣ مدينة، وفي المقابل كانت ردة فعل السلطات الإيرانية شديدة منذ لحظتها الأولى وصاحب هذا القمع بالتزامن قطع للأنترنت كي لا تصل الى النشطاء في المنفى اخبارا وصورا. تعاملت قوات النظام بعنجهية تامة واستخدمت العنف المفرط حيث لم يسبق له مثيل طيلة أربعة عقود من عمر النظام الايراني.
تمتلك الأقاليم المختلفة في جغرافية ايران خصوصيات نضالية مختلفة. حيث لكل أقليم تاريخ خاص يرتبط بنضال جماهيري مرتبط بعموم ايران وعمل على إسقاط الأنظمة القمعية في عهد الشاه ومن ثم ضد نظام ولاية الفقيه. بالإضافة الى ذلك، لكل شعب خصوصيته النضالية وتجربته النظرية والعملية على حد سواء.
اقليم الاحواز
منذ ما يقارب عقدين لم تنقطع سلسلة المظاهرات والانتفاضات عن المدن الاحوازية ورفض من خلالها الجماهير الوضع الموجود وطالب بحقوقه. كانت تغلي الأحواز منذ عشية الثورة الأخيرة التي اجتاحت عموم الأقاليم في إيران بعد ما انتشر خبر تسمم الشاعر حسن الحيدري الذي توفي على إثر التسمم. اجتاحت جماهير غفيرة الشوارع القريبة من منزل الشاعر وتغير طابع التشيع وانعكس بشكل مظاهرة سياسية رافضة للنظام الإيراني حيث نزل المتظاهرون الاعلام الايرانية من الاعمدة من وسط الشوارع وأحرقوها ورفع المحتجون شعارات وطنية حملت المطالبة باستقلال الأحواز عن ايران.
وتبع هذا الحدث بفترة وجيزة اجتاحت الثورة عموم الأقاليم والمدن في انحاء ايران، وكانت مدن الاحواز في مقدمة المدن المنتفضة ضد النظامالايراني وأول من أشعلت النار في مؤسسات النظام الإيراني.
وبما أن القمع والتنكيل والقتل المباشر الذي حصل في كل ايران كان مفرطا، تعرضت المدن الاحوازية الى قمع وحشي أشد من غيرها، وما حصل في قضاء معشور والمدن التابعة له (مدينة الجراحي، الكوره وخور موسى ومدينة معشور) تضاعف مقارنة بالمدن الأخرى وحصد سلاح قوات النظام أرواح العشرات من الاحوازيين وحلت بهم مجزرة حقيقية.
وأما الحديث عن أسباب هذه المجزرة كثيرا ومختلفا. من جهة أعطت الجهات التابعة للنظام تقريرات خاصة عن الحادث وتم الإعترف صراحة بقتل المتظاهرين. من هناك أيضا، وصلت أنباء وأخبار من شهود عيان حول المجزرة بتفاصيلها المروعة ويمكن الاطلاع عليها من خلال المقابلة مع الناشط يوسف الصرخي والتي نشرت في راديو زمانه، وتقريرا تم نشره في موقع العربية ومصدرها صالح حميد. وروت هذه المقابلات أحداث المجزرة بالتفصيل.
لكن هنالك تكمن زوايا أعمق وخفية وراء مجزرة معشور وسنتطرق اليها في هذا المقال لكي نكشف سر القمع الوحشي بحق المواطنين الاحوازيين في هذه المدينة وضواحيها الذي دب فيها الفقر والبطالة والحرمان منذ عقود. وأدت هذه الحالات الاجتماعية الى فوارق طبقية لا يمكن التعبير عنها بسهولة
قضاء معشور والمجزرة المروعة
تقع هذه المدينة في منطقة هامة استراتيجية وتصنف بقلب اقتصاد إيران ولها الاهمية التالية:
أولا، تعلو هذه المدينة ثلاثة أمتار من البحر،
ثانيا، تقع فيها ٢٠ شركة للبتروكيماويات،
ثالثا، تبتعد ٧ كم عن ثاني أكبر ميناء استراتيجي وهو ميناء خور موسى (بندر امام)
رابعا، تتصدر جميع المناطق المنتجة للمشتقات النفطية خاصة البانزين في عموم إيران،
خامسا، يمتلك الميناء ٣٨ رصيفا (إسكلة) وبطول سبعة كم،
سادسا، ترتبط هذه المدينة بالداخل الايراني عن طريق سكك الحديد حيث يسهل الارتباط بها،
سابعا، تعتبر هذه المدينة المطلة على الخليج العربي جسرا استراتيجيا يربط إيران بالعراق، تركيا، روسيا، شرق أوروبا والقوقاز،
ثامنا، امكانية النقل البري والبحري والجوي من والى هذه المدينة،
تاسعا، تبتعد عن الاحواز العاصمة ٩٠ كم وعن عبادان ٩٥ (المدينة النفطية الأخرى التي يقع فيها اكبر مصفاة للنفط)،
عاشرا، فيها عدة أخوار أهمها خور موسى،
وبما أن موضوع الأهمية الاستراتيجية أوسع بكثير من السطور أعلاه، نركز على أهم نقطتين لكى نكشف ملابسات وقوع المجزرة المروعة في قضاء معشور.
أ-مجزرة معشور وخط الطاقة والحرس الثوري والتمييز
قطع المحتجون الطريق في هذه المدينة لفترة ثلاثة أيام متواصلة، فذاك صار مدعاة لشل خط الطاقة للنظام الايراني داخليًا، واعتبرته السلطات الايرانية حالة حرب معلنة عليهم بحسب رواية النظام. وبما أن يقع النظام بحرسه الثوري المسلط على كل مفاصل الدولة تحت ضغط كبير نتيجة العقوبات الامريكية من جهة ومن جهة أخرى يواجه في هذه الأيام سقوطًا لشرعيته في العراق ولبنان من حاضنته الشيعية. اذن بدأ يشعر النظام بقرب نهاية خططه التي بنيت على اساس الجيوبولتيك الشيعي الذي يتخذ من العرب والأفغان الشيعة (هزاره) ومن الذين ينتمون سياسياً لهذا المشروع وقودا لتوسعه الإقليمي.
وقعت مجزرة معشور ضمن هذا الفضاء المتزاحم في داخل إيران ومناطق نفوذها متأثرا بعلاقاتها السياسية والتجارية والاقتصادية ومصادر الطاقة. حصلت مجزرة معشور في مدن تقع على خط ساخن لا يمكن للنظام الإيراني ان يتحمل السكوت عنه. دمر هذا النظام المنطقة بأكملها وأحتل بغداد وصنعاء وبيروت ودمشق، اذن كيف يسكت عما فعله الاحوازيون في معشور؟ لذلك هرعت مليشيات من العراق ولبنان حسب شهود في المنطقة إضافة الى وحدات خاصة من الحرس الثوري تحت مسمى قوات الحرس الإقليمي الخاصة ووحدات الدفاع عن ولاية الفقيه بأسم ( نوبو) وكتيبة مالك الاشتر التابعة لقوات الحرس الثوري البرية واطلقوا النيران العشوائية على الشباب المنتفض وتمت المجزرة المروعة في المدينة الجراحي.
ولا ننسى أن الخط الساخن الاستراتيجي الذي وقعت فيه مدن معشور ضحية للقوات المدججة بالسلاح الثقيل، يقابله الفقر والجوع والبطالة والتهميش المتعمد للعرب أصحاب الأرض الذين يرون الوضع المأساوي الذي يعيشونه وفي مقابل يشاهدون النعيم الذي يتمتع به المستوطنون الذين جلبهم النظام من المدن الفارسية للعمل في معشور.
ب- معشور والصراع الإقليمي بين إيران والسعودية
وأهم الأهم في هذه المجزرة، أن معشور بوعي أو دون وعي، بقواه الشبابية دخلت على خط ثان أكثر سخونة، وهو الصراع الإقليمي الدولي في منطقة الخليج العربي، ثلاثة أيام من قطع الطرق الاستراتيجية كانت كافية حتى تتحرك ماكينة البحث والتحليل في ادارات اتخاذ القرار الأمن القومي وفي غرف عمليات الحرس الثوري وكانت النتيجة: أن العرب في قضاء معشور من خلال قطع الطرق الرئيسية (حسب تحليل الحرس وأنظمة المخابرات)، يقومون بعمل يعادي النظام الثوري الإيراني ويناصر موقف السعودية، واعتبروا هذه التحركات ما هي الا ردة فعلٍ انتقامية على ضرب منشآت آرامكو السعودية في ١٤ سبتمبر ٢٠١٩. اذن دخلت قضية معشور مرة أخرى خارج عن حسابات الثورة في عموم ايران وحتى بعض المدن الاحوازية.
تصفير الصادرات الايرانية من النفط بمراحلها المتواصلة من قبل الولايات المتحدة لثني ايران عن مشروعها النووي ودعم الاٍرهاب الحوثي ومليشيات الطائفية والذي يراد منه أن يعدل نظام ولاية فقيه سلوكه في المجتمع الدولي بغية رجوع ايران الى دولة غير معادية، أعطت مردودا سلبيا للداخل الايراني، وهذا الأمر رأيناه جلياً في ساحات معشور، حيث نزلت الدبابات والمروحيات والأسلحة الثقيلة في مشهد حربي بأمتياز وقد دفع قضاء معشور ثمن هذا الصراع الاقليمي والعالمي في مجزرة مرعبة سقط من خلالها العشرات وأدانتها الوزارة الخارجية الامريكية.
مدينة معشور ضواحيها والمجزرة التي حصلت في الجراحي يختلف حسابها عند نظام الإيراني عن مدن شيراز، اصفهان، طهران، وحتى مراكز الأقاليم مثل سنندج، تبريز ومدينة الاحواز حيث تجمعت فيها جميع خطوط ايران. هنا حضرت قضية الحوثي، هنا حضرت كل ميلشيات التابعة لسليماني في العراق، هنا حضرت قوات حزب الله، والنظام السوري وإيران بكل قواها، كانت معشور جبهة دون أن يعرف ثوارها وترجمت باعتبارها خندقا لكل من يعادي النظام في إيران. دفعت معشور ثمن كل الجهات التي تحارب التوسع الإيراني في داخل إيران وخارجها، لذلك يرى المشاهد ان بشاعة المجزرة تختلف عن جميع المدن الأخرى، وتكشف الايام حجم مجزرة الجراحي (معشور) وما يختفي بين ثنايا قصب تلك القطعة من الهور التي أستشهد فيها أبطال المعركة.
الكاتب: عادل صياحي
المصدر : مركز دراسات دورانتاش