#أحوازنا – تراتيل حزن على انغام نشيد موطني
جاء بعد غياب طويل ومعه زوجته وإبنه، رحبت بهم ودعوتهم للدخول الی البیت فاعتذر قائلا": نحن في طريقنا لإحدی القری ونود ان ترافقینا رحلتنا هذه فما رايك؟ قبلت دعوتهم فخرجنا معا" متوجهين الی تلک القریة. وجهتنا كانت قرية نائية بعيدة عن العاصمة الأحواز.
قرية هادئة استعاضت بطبيعتها البكر ووداعة سكانها وبيوتها المتواضعة عن بهرج المدن وأناقتها المصطنعة فأضحت أجمل وأبهی منها بکثير، هكذا وصفها رفيقي.
يومها كنت في خضم نكبة، أعيش خيبات متتالية جعلتني كئيبة بما فيه الكفاية ليكشف أمري أمام رفاق رحلتي رغم الإبتسامات الباهته التي كنت اتصنع بها السعادة أمامهم، حيث لم اتبادل معهم منذ بداية الرحلة كلاما" سوی أحادیث مقتضبة سائلة عن حالهم واخبارهم.
كنت شاردة الذهن سارحة في الخيال، انظر الی السماء، بدت السماء یومها کوجهي تماما" ملبدة بالغيوم، منذرة بالعاصفة. تكابر لتخفي كآبتها ببعض زهاليل نور هنا أو هناك ، كثكلی تكدس احزانها في انتظار بريق يستفزها لتهطل، لتبكي بحرقة وتنفض ما ألم بها من ألم، عساها تعود كما كانت صافية كالبحار، زرقاء كشذرة خاتم، تتوهج شمسها وتسطع بالنور علی العالمین.
اخذت اتفحص خرائط السحب الجاثمة علی صدر السماء ابحث عن سر الكآبة المفرطة هذه.
تری ماهو سر حزن السماء؟
أکانت تشارک بلادي مآتمها المفجعة؟
علی أي بقعة من بلادي حزنت ياتری؟
علی أسر أحوازنا وأغلالها الجارحة، اطفالها الفقراء الحفاة، بؤس بيوتها أم سجنها الذي ضاق بمئات الشباب؟
ربما آلمتها جراح العراق، انقاضه واشلاء اطفاله وشبابه الشهداء؟
ماذا عن الشقيقة سوريا أيمكن أن تكون سر الالم؟ سوريا، حرمتها المستباحة لكل الأمم، أنهر الدم الجارية وخراب المدن، لم لا؟
فالسماء بحكم إشرافها علی الأرض تری کلشيء، ليست بحاجة لنشرة أخبار مثلي. ان كنت رايت جزءا" من المجريات فهي رأت كلشيء، بكل التفاصيل الدقيقة التي تدمي القلب، تلك التي غفلت عن ملاحظتها عيون البشر.تفاصيل تقطع كالسيف وتخنق كالعبرات.
تری کل بیت یهد علی ساکنیه، کل قتیل خضبته الدماء، تحصي جروحه، تعرف أین استقر رأسه وحجم المسافة بين الجسد واطرافه التي بترتها القذيفة.
تری کل سجین یعذب في ظلمة السجن وتسمع صوته. وكل شريد مهجر حين يحاصره المطر فتضيق به الأرض رغم وسعتها، المطر، ذات المطر الذي يغمرنا بالسعادة حين ننظر اليه بعين الجمال من خلف شبابيكنا في الغرف الدافئة.
تری کل طفل یتلوي من الجوع ويصرخ، كل شيخ يعاني من البرد فيرجف. تری بحر إیجة وهو يبتلع اللاجئين، يتغذی علی جثثهم بنَهم، عدد يعلن في كل يوم واعداد لا يعرفها أحد غير رب السماء.
بدأت استوعب حجم معاناتها وهي تنظر الی کل هذا الدمار فقلت: استغرب كيف صبرت علی ما ترین، کیف لم تمطرينا دما" او حجر، استغرب حلمك ياسماءا" تری کل ما لا نراه. أیقتلک صمتنا المر مثلي؟ ايؤلمك ايضا" هوان أعز الأمم؟ اخبريني بربك، ،هل سنثور؟ هل ثمة وعد بنصر قريب نتصبر به عن فداحة مأساتنا، نحمله زاد رحلتنا المضنية؟
جاء صوت رفيقي كالمنبه ليوقظني من سباتي وينتشلني من اعماق الخيال، يبدو انه تنبه لشرودي ، سألني: ماسر صمتك اليوم؟ قطعنا نصف الطريق هل لاحظت ذلك؟ نحن هنا فلا تنسي ان تشاركينا افكارك وما يشغلك.
نظرت اليه كمن ينظر بإستغراب إلی وجه لم یره من قبل لأفهم مایدور حولي، علمت من نظرته انه وجه إلي سؤالا"، فأجبته بتلكؤ: سامحوني شردت قليلا" . بعدها تكلمت عن روعة الأجواء وجمال المعالم في محاولة لإستدراك الوضع. لم أكن في مزاج مناسب للحديث عما يدور في خلدي. أردت ان أحتفظ بجروحي الغائرة لنفسي، لم اشأ أن أعكر صفو رحلتهم بشجوني أو ربما تحاشيت الحديث عنها لتبقی کما هي ، بركان يستحيل معه النسيان. عدت إلی صمتي من جديد بعدما تعذر علي إيجاد أحاديث أخری تصلح لتکون مهربا" من الخوض في الحزن والألم فبدء رفيقي يتحدث عن أجواء القرية التي سنزورها وعن التقاليد السائدة بين سكانها في محاولة منه لإنتشالي من الغرق في بئر احزاني، رأيت أن اكسر صمتي وأجاريه قبل ان يبدء بطرح الاسئلة المتكررة عن اسباب حزني فيضطرني للحديث عما جاهدت لكتمانه، صرت اتناقش معه حول ما يقول وأسأله عن طبيعة هذه المعالم فتحدث عنها وعن طبيعتها الخلابة. كنا قد اجتزنا معظم الطريق واقتربنا إلی وجهتنا حین عاد الهدوء لیخیم علی المکان. لاحظت حینها إننا وصلنا إلی واد رملي يستهوي الناظر بجماله ويجعله يضيع في روعة طبيعته متناسيا"كل ما يفكر فيه.كلما تقدمنا في الطريق كلما لاحت لي ملامح التاريخ اكثر وضوح ودقة. شعرت حينها انني أعود إلی جذوري، إلی نشأتي، عبق الرمل الندي كان وحده كافيا" ليغمرني بالأمان. شعرت أني أعرف هذه الأرض وإن لم أكن قد زرتها من قبل. اعرفها وأحبها لدرجة الذوبان في سحرها والإمتزاج بحبيبات رملها الصفراء. شعرت كأني أعرف تضاريس هذه الأرض تماما" كخطوط راحة يدي، احفظها عن ظهر قلب.
ملامح هذه الأودية السمراء اخذتني إلی حیث جبل مشداخ، لكانها توأمه الآخر يستدل بها عليه. شعرت بالحنين إلی جبل لم أره وقد تیمتني به قصص عمتي عن ابطال مروا به مرارا" في طريقهم إلی تنفیذ عمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال،،ليحولوه بذلك من جبل إلی تاریخ أشم.
للحظة تمنيت لو كنت طيرا" يحط علی اکتاف مشداخ متی ما أنهکه التعب. طعوس الرمال تلك بارتفاعاتها وانحداراتها كانت اشبه بالحياة بكل نجاحاتها وانتكاساتها، لا تبقی علی حال، دائمة التقلب بين حال وآخر. بدت كأمواج بحر هائج، تطير بنا نحو السماء ثم تعيدنا إلی الأرض برفق. لکأننا طائرة ورقية بيد طفل مشاغب يركض فرحا" غير آبه بهموم الكبار. وددت لو انني استطيع الوصول الی تلک الطعوس فأقطعها عدوا" حافیة كبنت ريح تسابق العاصفة، علني اتخلص من وزر أحزاني واستودعها بيد الرمال، ستتقبل الأرض مني هبتي البائسة حتما"، أوليست كالأم يفرحها أن القي ثقل همومي عليها دون ان تتعذر عن حملها.
بعد اجتياز الكثير من المنعطفات وصلنا الی طریق معبد تحفه الأشجار من ناحیتیه. اشجار شاخت کفایة لتدرك أن أغصانها ستكون أقوی حین تتشابک مع أغصان من حولها من مثيلاتها وأن الريح لا تقوی علی هزیمة صف متعاضد وأن اليد الواحدة تحتاج إلی الإمساک بأیادي من حولها لتزداد قوة، وكأنها أرادت ان تعلمنا بطريقتها البدائية تلك أن الحكمة في الوحدة والفرقة محض غباء. حكمتها هذه جعلتها تجد ملاذا" لأغصانها حين بلغت ذروة العمر فلم تنحني كما تفعل عادة قامات بني البشر. مما جعلها تحافظ علی هیبتها وتظل من یمشي في محاذاتها علاوة علی ذلك. بلحمتها تلك بدت كقوس قزح موحد اللون، أخضر، فأخضر علی امتداد البصر، کانت تشبه الهلال، ذات الهلال الذي تربع علی عرش کارون لقرن طویل مثقل بالجراح، ليكون أكثر من جسر حديدي ومعبر. ما أجمل هذا المنظر، ،كأنه قطعة من الفردوس يزداد جمالا" وبهاءا" كلما توغلت فيه أكثر، لا متناهيا" وممتد نحو الأفق البعيد. يغريك بالاحلام والأمنيات، يجعلك تتخلی عن خیباتک وانکساراتک بین منعطفاته، یمدک بالأمل لتستبشر بالغد رغم هزائم الأمس. کأنه یبشرک بمفاجآت سارة خبأها لنهاية مشوارك، لا تعرف ماهیتها علی وجه التحدید، لکنک تجزم أنها ستفوق تصوراتک في تألقها وجماليتها المفرطة.
رأيت بلادي لحظتها فتية، مبهرة، عنيدة، لا تزال في عز عنفوانها، تهزء بالمخافر المزروعة كالألغام علی طول الطریق والسدود التي جففت أنهارها الزاخرة بالحياة، تهزء بالوجوه الغريبة التي غزتها علی حین غفلة من أهلها ودنست طهرها. تتوعد تلك الوجوه الغريبة بالويل قائلة: حصاركم الظالم، سدودكم المجحفة وغزوكم الغاشم، هذه ظلمات لن تدوم فموعدنا الفجر والفجر بات وشيكا". لن تنالوا من صمودي، ها أنا لا زلت صامدة كالطود الأشم. لا أراكم إلا كعاصفة ستمر علی قامتي الشامخة مرور العبث. لا يغرنكم الصمت في هذه الأودية، فالبراكين قد تظل صامتة لعقود، لكنها ستجرف كلما يقف في طريقها حين تثور، سوف تتقيأ النار في وجوهكم، تدفنكم في الحمم. لا يغرنكم هدوء المدن الغافية علی وسائد أوجاعها، ربما تتصنع النوم وهي بكامل وعيها كطبع الذئاب تنام لكنها لا تنام. ربما تكون غفوتها كإستراحة لمحارب يستجمع بها قوته. ربما تنتظر ساعة الصفر او تتحين الفرصة السانحة؟ فهناك العشرات من الاحتمالات حين يتعلق الأمر بالمدن الغاضبة.
لا تفرحوا، فصمت المحيطات ينذر بالعاصفة. صبرنا علی ظلمکم لعقود وللصبر حد، سنضطرکم للرحیل قریبا" فلا تفرحوا. لن اکون لکم وطن ، لن اکون کأم، فالأرض لا تعترف بالتبني ولن تتقبل الغرباء مهما بقوا جاثمين علی راحتیها. انا أم ابناءي الأصلاء، ساكون لهم ملاذ واكون لهم مستقر، لهم جنة ورحاب، اما لكم فلست سوی غربة كالمتاهات لا تؤتمن. انا أم ابناءي الأصلاء، أما لكم فسأحرص علی أن اکون کمقبرة ليس فيها شواهد، تحترف ابتلاع كل دخيل تسوِل له نفسه غزوها. نصبت لكم فخاخ علی قارعات الطرق، حذاري ففي كل منعطف قارعة سوف تودي بكم، فانتظروا الموت في أوجه العابرين، في زهور الحدائق وزقزقة العصافير فوق الشجر، فلا يوجد هاهنا ما يرحم سارق. سيشهد ضدكم شجر أو حجر أوبشر، فالجميع هنا شاهدكم تقتلون وللقاتل حكم يسمی القصاص، مشانقکم سوف ننصبها فوق جذوع النخيل. فلا تفرحوا لن يطول الزمان كثيرا" والثأر لا زال حيا" فلا تخدعكم قوتكم والسلاح، فالغضب عامل حسم كبير يغير مجری المعارک.
صحوت اخيرا" من شرودي وابتسمت.
بلادي تتوعد الغاصبين، ابتسمت و سالت من عيوني دموع الفرح. وعيد بلادي أعاد إلي الأمان، مسحت دموعي وقلت: افرحي فالغزاة علی رحیل. التفت إلی یمیني فإذا بإبن رفيقي نائم، مسحت علی رأسه بحنو وقلت: نم يا صغيري فالغزاة علی رحیل.
طلیعة الأحوازي