#أحوازنا-الفرس وشيطنة الآخر أمام الغرب: أسلوب قديم متجدد
مؤخرا أهداني الصديق العزيز الدكتور يحيى بن جنيد رئيس مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية مجموعة من إصدارات المركز من بينها كتاب بعنوان "مهمّة في بخارى: 1843-1845" للبريطاني الدكتور جوزيف وولف، وقد تم ترجمة الكتاب إلى العربية ونشره من قبل مركز الملك فيصل. في طريقه إلى بخارى ومرو، حيث السعي لإنجاز مهمته الرامية لتتبع مصير اثنين من رعايا بريطانيا فقد أثرهما في بخارى، مرّ الدكتور وولف عبر بلاد فارس ومكث في طهران عدة أيام والتقى ببعض الشخصيات الإيرانية. الجدير بالذكر أن الكاتب كان قد زار بلاد فارس وبخارى قبل هذه الزيارة وكان ذلك في عام 1825، وقد استوقفني في هذا الكتاب بعض المواقف التي حدثت له سردها في سياق حديثه عن زيارته الأولى لتلك المنطقة، وقد تكون مواقف طبيعية للقارئ غير المتخصص في الشأن الإيراني، إلا أنني عندما مررت بها توقفت عندها كثيرا الأمر الذي دعاني لكتابة هذا المقال.
نستعرض بداية أهم ما ذكره الدكتور جوزيف وولف. تحدث الكاتب عن موقف حدث له بطهران حيث يقول: "في عام 1825 قمت بزيارة صديقي القديم خسرو خان أحد وزراء فتح عليشاه، فقام (خسرو خان) في الحال بالاتصال بأحد التجار الفرس، الذي كان عائدا لتوه من هناك، وعندما حضر التاجر دار بيني وبينه حوار في حضور خسرو خان، الذي أفصح لذلك التاجر عن نيتي الذهاب إلى بخارى، عندها استدار التاجر وقال لي:
– " نمى توانى بروى"،أي: إنك لا تستطيع الذهاب.
– وولف: "چرا؟" أي: لماذا؟
– التاجر: حالما تصل إلى خراسان، فإن التركمان، وهم سنة ملعونون، ولذا يغزون خراسان التي يقطنها شيعة طيبون، سوف يأخذونك رقيقا، أما إذا نجحت في الوصول إلى سرخس أو مرو، فإن التركمان سيقتلونك في اللحظة التي تصل فيها إلى هناك. وإذا ما قدر لك الوصول إلى منطقة قره قول، فإن الحاكم، وهو ابن حرام آخر من السنة، سيستقبلك بألطف صورة، ثم يعطي أوامره السرية لإغراقك في نهر آمو (أكسوس)".
بعد أن غادر وولف إيران ووصل إلى خراسان وقع بالفعل في الأسر، حيث يروي ذلك قائلاً: "وقعت بالفعل أسير العبودية في خراسان ولكن ليس على أيدي السنة الملعونين (كما يسميهم التاجر الفارسي)، أي الخراسانيين التركمان وإنما على أيدي لصوص محمد إسحاق، خان تورباد حيدرية. فأهل خراسان، وهم من طائفة الشيعة، هم الذين استعبدوني أنا و10 من رفاقي، كانوا كلهم من الشيعة، وأصبحوا رقيقا على أيدي إخوانهم في المذهب".
أما عن تعامل السنة التركمان معه فيقول الكاتب: "لقد شدد رؤساء التركمان، الموجودون في ذلك الوقت في تورباد، على أنني ضيفهم (مهمان) الذي سيقطعون آلاف الأميال لبذل أرواحهم في سبيله… ومكثت بينهم 22 يوما، كانوا فيها أبعد ما يكونون عن محاولة قتلي.. وبعد ذلك خرجت مع أحد التركمان من سرخس إلى مرو وبخارى، ولم يقدم أحد على محاولة اغتيالي في أي من المدينتين، رغم أنه أمر توقعه ذلك التاجر في طهران". ثم ينقل الدكتور وولف عن أهالي بخارى قولهم: "لقد صبغوا (أي الشيعة الفرس) مدينة بخارى، التي هي قوة لدين الإسلام، باسم (قتلة الضيوف) الذين نعدهم مقدسين بالنسبة إلينا، ولذلك يجب علينا معاملة جوزيف وولف، وكل رحَالة إنجليزي يأتي من بعده، بتقدير عال واحترام، من أجل أن ينقل صورة حقيقية عن ميولنا تجاه الضيوف، وحرصنا في معاملتهم". وأخيرا يروي الرحالة وولف أنه قد تعرض مرة أخرى للسلب "ولكن ذلك لم يكن في مملكة بخارى، وإنما على مسافة أربعين يوما منها، في دو آب، بالقرب من بت باميان، ولم يكن من سلبني من السنة، ولكنهم الشيعة".
وبعد هذه الاقتباسات من كتاب "مهمّة في بخارى" فإن هذه القصص والمواقف التي يرويها الدكتور جوزيف وولف وتعود لمنتصف القرن التاسع عشر الميلادي تقودنا لربطها بشكل تلقائي بتصريحات ومواقف إيرانية نسمعها ونقرأها بشكل متكرر هذه الأيام. يركز المسؤولون الإيرانيون، وتردد من خلفهم وسائلهم الإعلامية الناطقة بلغات مختلفة، مزاعم يحاولون من خلالها تشويه صورة الدول العربية وأتباع المذهب السني أمام الغرب، ويحاولون إلصاق تهم الإرهاب والوحشية والهمجية بخصومهم السياسيين وفي مقدمة ذلك دول الخليج العربي والسعودية تحديداً، ولعل آخر هذه التهم ما ذكره وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في مقاله الذي نشر قبل أسابيع في صحيفة النيويورك تايمز الأميركية.
إن شيطنة الآخر ومحاولات كسب نقاط إيجابية على حسابه هي سياسة إيرانية قديمة متجددة، تطرقت لنماذج عدة منها في أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه التي كانت بعنوان "مفهوم الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث"، وكما لعبت الأيديولوجيا المذهبية الإيرانية الدور الأبرز في شيطنة الآخر التركماني السني قبل نحو 200 عام فإنها تتكرر حالياً في ظل نظام ولاية الفقيه الذي يحكم إيران منذ عام 1979، ولكنها تركز في الوقت الراهن على السني العربي على وجه التحديد، إلا أن الدافع الرئيس واحد في كلا الحالتين، ولذا ينبغي فضح ممارسات النظام الإيراني الإرهابية والطائفية، داخليا وخارجيا، في كافة وسائل الإعلام العالمية وكشف ذلك للرأي العام العالمي ليتم تقديم الصورة الحقيقية للنظام الإيراني دون أي مساحيق تجميل، وفي الوقت ذاته كشف محاولات طهران شيطنة الآخر لتظهر هي بالمظهر الملائكي البريء والمظلوم والمجني عليه لاسيما وأن ذلك أحد أهم أركان الأيديولوجيا التي تحكم إيران حالياً. أما الجانب الأهم، في نظري، هو أن نعمل، كدول عربية وسنية على تقديم أنفسنا للرأي العام العالمي بالطريقة التي تعكس حضارتنا وثقافتنا ولا نترك الساحة لوسائل الإعلام المسيّسة ضدنا لتقدمنا بالصورة التي تخدم أهداف من يقف وراءها. وإن كان قد فشلنا في السابق في تقديم أنفسنا بالطريقة التي تليق بنا ونحصد حالياً بعض نتائج ذلك الفشل فإنه يتوجب علينا في الوقت الراهن العمل بجدية لتصحيح صورتنا النمطية لدى الآخر، ونسد الطريق على كل من يحاول تقديم نفسه على حسابنا، ولنتذكر أن الغائب هو الخاسر الأكبر دائماً.
محمد السلمي
المصدر: صحيفة الوطن السعودية