إيران: من الاصطناع إلى احتلال الجزر الإماراتية
يتجلّى مؤتمر بالتميور مطلع القرن العشرين، في العقل العربي، باعتباره المؤتمر الدولي المؤسِّس لتفكيك الوجود العربي، والواضع لخطط اصطناع كيان يهودي، يكون بمثابة رأس حربة غربي داخله، يُمكِّن القوى الغربية من ضبط المسارات السياسية الإقليمية عقب إنهاء السلطنة العثمانية. وعليه انطلقت تلك القوى في استحداث الكيان الإسرائيلي، ودعم وجوده عسكرياً، والارتكاز عليه في توسيع المناطق المحتلة في محيطه.
لكن ذات القوى، عملت في تلك الفترة على اصطناع كيان آخر لا يقل خطورة عنه على الحدود العربية شرقاً، متمثلاً في الاستيلاء العسكري على الأقاليم المحيطة بالمركز الفارسي (طهران-قم يزد)، وتوسيعها بما يُشكِّل كياناً دولياً عُرِف لاحقاً باسم إيران، وتحت الرعاية والتنظيم البريطانيين. وأتت وظيفة هذا الاصطناع في مواجهة القوى المنافسة دولياً، وأداة تدخلية مديدة في العالم العربي الخارج من عبء التركة العثمانية، أو المدولن حديثاً.
واستطاعت السلطات البريطانية بقوة السلاح تعزيز هذا الكيان، وخاصة أنها كانت القوة الدولية الأكبر والمهيمنة على المنطقة، من خلال شرعنة جرائم النظام الفارسي الجديد، والممتدة داخل ما بات يعرف بإيران، قبل أن تُكرِّر ما قدمته لليهود المستجلبين من كافة بقاع الأرض، عشية انسحابها من فلسطين، بترك المجال واسعاً أمامهم، بعد تزويدهم بعديد من أنواع الأسلحة، حتى يكونوا قادرين على فرض الهيمنة على المناطق التي يتمركزون فيها وتوسيعها لاحقاً. فذات النهج تكرّر في الحالة الإيرانية، قُبيل إعلان اتحاد الإمارات العربية، لينتقل الكيان الإيراني من حالة الاصطناع إلى الاحتلال المباشر على غرار مثيله الإسرائيلي، من خلال غزوه العسكري للجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى)، وفرض تبعيتها له بقوة السلاح والدعم البريطاني.
وقد قُدِّم الكثير من الدلائل القانونية والتاريخية على بطلان الاحتلال الإيراني لهذه الجزر، ورغم ذلك، فإنّ كياناً اصطُنِع حديثاً من قبل قوى خارجية ومن خلال عملية توسعية عسكرية، لا يملك الحق في الهيمنة على شعوب داخل حدود ما يعرف بإيران، ما ينفي عنه الحق في مزاعمه خارجها، وخاصّة في ظلّ كمّ الوثائق التاريخية التي تُطرَح علانية.
إذ لم يكن لإيران أيّ تماس مباشر مع مياه الخليج العربي، حتى لحظة الاصطناع تلك، بل إنّ التاريخ الذي يُسَاق من قبل مفكرين غربيين وفرس، عن امتدادات امبراطورية في عصور سابقة، يقع تحت خانة الشك وفقدان التوثيق، وذلك عبر توظيف إعلامي واسع، يهدف إلى اليوم، إلى حماية الصناعة الغربية في إيران على غرار الصناعة الغربية في فلسطين.
وحيث تعلم إيران بطلان شرعية إجراءاتها العسكرية تجاه تلك الجزر الثلاث، فإنّها تدفع بمزيد من قواتها العسكرية إليها، خشية فقدان الهيمنة عليها، إذ تفتقد إلى الثقة التي تُميِّز سلوك كافّة الدول تجاه أقاليمها الجغرافية، وهو ما يدفعها إلى المبالغة في تعزيز مظاهر سيادة وهمية عليها. وخاصّة أنّها ما تزال تعاني في فرض سيادتها حتى داخل إيران، على القوميات التي احتُلّت أقاليمها، وخاصّة في منطقتي الأحواز وبلوشستان، والتي تشهد مقاومات مسلحة بين الفينة والأخرى، واحتفاظاً بالهوية الأصلية لسكان تلك الأقاليم، وتعزيز مظاهرها الثقافية الخاصة بها، في مواجهة الطمس الفارسي.
وتسعى إيران من خلال هذا الحضور الاحتلالي، إلى محاولة اختراق البيئة السياسية الخليجية، وإشغالها بأعمال جانبية، بغية إحداث اختراقات تطال المنجز الاقتصادي الإماراتي الضخم، الذي استطاع إقصاء إيران عن المجال التنافسي في المنطقة والعالم، رغم ما تمتلكه إيران من مخزونات نفطية وغازية كبيرة، مرتكزة هي الأخرى على ما ينتجه إقليم الأحواز المحتل كذلك. فيما تعلم إيران، أنّ قضية الجزر الإماراتية المحتلة، تبقى قضية رئيسة في التوجهات الخارجية الإماراتية، لا لتأثيرها على بنية الدولة الإماراتية، بل لرمزيتها السيادية والمعنوية، ما يمنحها ثِقلاً أخلاقياً في السياسة الإماراتية، يلاحق السلوك الإيراني في كافة المحافل الدولية والإقليمية.
وفي إطار الإشغال الإقليمي، تدفع إيران إلى مزيد من عسكرة المنطقة، سواء في المشرق العربي، أو في اليمن، أو حتى أبعد من ذلك عربياً، بغية تشتيت الجهود العربية، ومنعها من تشكيل نسق متكامل قادر على استرجاع الحقوق المشروعة. عدا عن محاولات الاختراق الداخلي لدول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة في مملكة البحرين والكويت، ما يشكِّل تهديداً مباشراً لأمن مجلس التعاون الخليجي، وعبر ذات الادعاءات التاريخية الباطلة المساقة تجاه الجزر الإماراتية المحتلة.
وترقب إيران بكثير من الخشية التطور العسكري الذي تشهده دول الخليج العربي، وخاصة الإمارات والسعودية، والذي بات يتفوق عليها كماً ونوعاً، ويتعزز بمشاريع التحول النووي في كلتا الدولتين، وتدرك أنه مُوجّهٌ إليها في المحصلة، عقب إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية، وخاصة في سورية والعراق ومصر. لذا، تدفع إيران إلى مزيد من تغلغلها في تلك البيئات، فيما بات يشبه حرباً باردة بين الطرفين على الأرض العربية، مدعوماً بتداخلات دولية لكلا الطرفين.
وحيث إنّ العقلية الإيرانية لا تستوعب منطق العلاقات الدولية عبر المشاركة في المصالح، وتستند في المقابل إلى منطق القوة فحسب، فإن القوة الخليجية الصاعدة هي المُعبِّر عن التوازنات المقبلة في منطقة الخليج العربي ككل، وهو ما يشكل ضغطاً على إيران، تحاول الاستعاضة عنه مؤقتاً باستعراضات عسكرية في مياه الخليج العربي، في محاولة لاستدراك حضورها الهشّ فيه.
ما يشكل ضغطاً آخر على إيران، هو الاشتغال الفكري العربي على مواجهتها، سواء فيما يتصل بقضايا الخليج العربي، أو المناطق العربية المستهدفة الأخرى، إذ يشكل هذا الاشتغال معادلاً مضاداً لمحاولاتها تزوير تاريخ المنطقة العربية بأسره، وصيانة الوعي العربي من محاولات الاختراق الثقافي. إذ استطاعت إيران توظيف عدد من النخب الفكرية العربية لخدمة المشروع الفارسي المتهاوي، سواء من خلال تزييف وعيها أو من خلال استئجارها لهذا الغرض، دون أن تحقق النتائج التي تسعى إليها عملياً.
عبد القادر نعناع
كاتب وباحث سوري
مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث