#أحوازنا-الفرس: تاريخ من الاستفزاز والغزو للجيران
تستطيع أن تستبدل صديقك. لكن لا تستطيع أن تغير جارك. كانت جيرة العرب والفرس صعبة. سبق الفرس العرب إلى الحضارة. والحضارات الإنسانية قد تنطوي على ذاتها، كالحضارتين الهندية والصينية. تمسكت الأخيرة بالنأي عن الآخر. فأقامت سورا عظيما يفصلها عن الغرباء الذين اعتبرتهم برابرة.
في اكتشافهما «صراع الحضارات»، اعتبر الباحثان اليهوديان برنارد لويس. وصموئيل هنتنغتون الحضارة الإسلامية غازية. وخطرا على الحضارة الغربية المسيحية/ اليهودية، بعد سقوط الإمبراطورية الشيوعية (1989). وظلا يمارسان دعوة الغرب إلى محاربة الحضارة الإسلامية.
نعم، كانت الحضارة الإسلامية غازية للعالم سلما وحربا. لكنها انطوت على روح المساواة الإنسانية التي بشر بها العرب المسلمون الأقوام والشعوب التي غزوها. أو تعاملوا معها تجاريا وثقافيا.
تميز تطبيق العرب الأوائل للإسلام بتسامح روحي كبير، يتجاوز صرامة القانون الإسلامي (الشريعة). أقام الإسلام الأندلسي ثمانية قرون في أوروبا. اهتم بالفن. والثقافة. والعمران، فعزف عن أسلمة الإسبان والبرتغاليين، فيما أصر الإسلام التركي العثماني على أسلمة أوروبا الشرقية التي احتلها. فترك وراءه عند اضطراره للانسحاب سلاف البوسنة والهرسك المسلمين بلا حماية. فتعرضوا لمذابح هائلة، على أيدي أشقائهم السلاف الأرثوذكس والكاثوليك.
في الحرية والحماية التي وفرها عرب الأندلس لليهود الشرقيين (سفارديم) الذين رافقوهم إلى إسبانيا، كتب ابن ميمون جانبا كبيرا من فقه الدين اليهودي. وعندما انسحب العرب من إسبانيا والبرتغال، تعرض من بقي من عرب ويهود إلى اضطهاد «محاكم التفتيش» الكاثوليكية. وكان معظم اليهود قد عادوا مع العرب إلى بلدان المغرب العربي الكبير.
الحضارة الفارسية عريقة. لكن أداءها كان سلبيا. فكانت استفزازية معادية لجيرانها الأقربين والأبعدين. ووصلت غزواتها قبل الميلاد إلى اليمن. ومصر. واليونان. وتركت وراءها دمارا مروعا. لم تترك فضائل وقيما حضارية. وبقيت آثارها داخل إيران.
المجوسية الفارسية تبنت في ديانتها الزرادشتية النار رمزا للعنف والقوة في التعامل مع الآخرين. وأثرها الثقافي الوحيد كان لدى فلاسفة القوة، مثل نيتشه الذي مجَّدها في مؤلفه (هكذا تكلم زرادشت). ولعل الفاشية النازية، بتبنيها العنصرية الآرية، قد تأثرت بعنفها وسلبيتها أيضا.
طبيعة الصحراء القاسية حرمت العرب من إقامة حضارة مبكرة. فكان احتكاك القبائل العربية بالإمبراطورية الفارسية مهينا لهويتهم. فوصلت سخريتهم بسلبيتها. وعنادها الحضاري والعنصري، إلى ضرب المثل بحماقة كسرى: «هاج البحر. فأمر كسرى بجلده مائة جلدة».
والأدب العربي الجاهلي طافح بحكايا المعاناة من صلف الفرس. غنت أسمهان قصيدة ليلى ابنة قبيلة ربيعة البارعة الجمال التي خطفها كسرى. فامتنعت عليه. وشكت من تعذيب الفرس اللاأخلاقي لها: «غللوني. قيدوني. ضربوا موضع العفة مني بالعصا». وأنحت باللوم على قومها العرب لتقاعسهم في نجدتها: «عُذِّبَت أُختُكُمُ. يا وَيلَكُم بِعذابِ النُكرِ صُبحًا وَمَسا». وتنتهي حكايتها بخاتمتين متناقضتين: اضطرار كسرى للإفراج عنها. أو إقدام ابن عمها البرّاق على إنقاذها من الأسر.
الإمبراطورية المجوسية الفارسية غزت وغُزيت. في القرن السادس قبل الميلاد، غزا الإمبراطور الفارسي قمبيز اليونان الإغريقية. وفعل ذلك أبوه كوروش أيضا. وغزا الإمبراطور المقدوني الإسكندر بلاد فارس في القرن الرابع قبل الميلاد. وحطم بجيشه الصغير في طريقه إلى الهند جيش الإمبراطور الفارسي داريوس الثالث. وكان من غزاة فارس أيضا المغول.
ارتكب الخليفة المعتصم بالله خطأ قوميا، عندما أسقط العرب من ديوان الجند. وضاق بالنزاع المستمر بين قادة جيشه من عرب وفرس. فحكَّم الضباط الأتراك بجيشه، بفعل تأثير والدته التركية. فلم يعد للعرب جيش إلا بعد 1200 سنة، مع استقلال العرب في القرن العشرين.
سبق الفرس هولاكو إلى غزو بغداد. ففي الصراع بين الأخوين الأمين والمأمون، انتصر الفرس للمأمون ذي الأم الفارسية. فتكنَّى قائده الفارسي باسم عربي (الطاهر بن الحسين). واجتاح بغداد محكما السيف في رقاب عربها. لكن المأمون المثقف بعد انتصاره على الأمين، أعاد الألق إلى بغداد، كعاصمة عالمية للثقافة والحضارة.
غسان الإمام
المصدر: صحيفة شرق الأوسط