هي والعجوز..وذاك النهر(قصة قصيرة)
تسكبُ قهوتها حتى تفيض؛ تقرأ فنجانها من زوبعته ..
هكذا هي، علّمتها الحياة أنْ لا نهاية لسخريةِ هذا القدر ..
تبتسمُ بحذر، ثمَّ تعيدُ قرائة الفنجان مرّةً أخرى، تنظرُ بدقةٍ
وترقّب هذه المرّة؛ يبدو أنّها أخطأت في القرائة الأولى، لاشئ يدعو للبسمة ..
سُرعان ما تتّضح معالمُ وجهها الشاحبة ..
تلك التجاعيد القاسية التي رسمها مُرُّ الزمان وهي في ال27 ..
تتناول القهوةَ بهدوء ..
وتأخذ أنفاسها من جديد لتبدأ يومها التقليدي،على تلك الأريكة وأمام شاشة التلفاز ..
غيرُ آبهةٍ بأمر الفنجان وما تكتبه الأقدار، تنظرُ إلى الساعةِ في أعلى الجدار المقابل،
" هذه الساعة لا تعمل منذُ زمن، ما الذي دفعها لمعرفة الوقت كغير عادتها؟ " ..
تُمسك بجهاز التحكّم و تبحثُ في قائمة القنوات عن "الجزيرة" ..
{ إعتصاماتٌ في ميادين القاهرة وإنفجارٌ في مقهىً ببغداد ومعاركُ طاحنة في ضواحي دمشق بين الحر و النظامي وحلٌّ لمجلس الأمّة في الكويت وإقتحامٌ لسفارةٍ أجنبية في بنغازي و… }
نشرةٌ إخباريةٌ مُحبطة !!!
"ما أجمل أن تشاركني بلادي المأساةَ والملل هذه الأيام"
تهمسُ مع نفسها في حالةٍ من الذهول والنشوة الكاذبة
قبل أن تُغلق صوتَ التلفاز بالكامل،
وتأخذُ من على الطاولة كتاباً لا جلدَ له يدلُّ على هويته؛
تحاولُ أن تقرأ بصوتٍ مرتفع لتصنعَ أجوائاً أفضل ممّا مرّ بها من لحظاتٍ في صباحها هذا ..
فجأة، إنخفضَ صوتها وحُبست أنفاسها مخلّفةً ورائها
" آهٍ " عميقة تمتدّ جذورها لأجيالٍ من الذكريات،عاشت مُرّها،
ورسمت حُلوها في مخيّلتها المزدحمة على أمل اللقاء بها يوماً ما..
إنتهت تلك ال" آه " الثقیلة بسماعها صوت الجرس ..
مغلوبةٌ على أمرها غادرت مخدعها وإتجهت نحو الباب وهي تضعُ مِعطفاً تُغطّي به شعرها وتقوم بتعديل ما يمكن تعديله من ظاهرها المنسي بسرعةٍ وإظطرابٍ شديدين؛ ــ نادت مرتبكةً وبصوتٍ مبحوحٌ : مَن؟ ــ أجابت سيدةٌ من خلف الباب: أنا ..
إنتابها شعورٌ بالطمأنينة لتعرّفها على صاحب الصوت ..
فتحت الباب، دخلت أمها ومعها الخبز الذي تفضّله وأثارُ التعب تلوّن وجهها الستيني ذو الملامح العربية الحادّة ..
تلومُ أمها كثيراً لأصرارها على قطع مسافة طويلة وتحمّلها عناء الحَر لتحصُل على "خبز تنور الطين" ..
تتناول من يدِها الخبز وتأخذ بعبائتها لتزيلَ منها الأتربةِ القادمة من الصحراء الشقيقة يومياً لزيارة أجواء البلاد ..
في الأثناء، تمرُّ سيارةٌ في الشارع وعليها مكبّرة للصوت يُنادي من بداخلها النّاسَ لحضور مراسيم تشييعٍ لشابٍ من أهل البلدة كان قد فُقد قبل 10أيام ..
لم تلبث العجوز أن داست عتبة البيت حتى عادت أدراجها لمعرفة الحادثة وملابساتها ،تفتحُ الباب لتجد أمامها الجارة "أم ناصر" تتصدّرُ المشهد وحولها مجموعةٌ من نساء الحي يتحدثن في صُلب الموضوع ..
ذهبت أمها لتنظمّ لأم ناصر ومن معها، وهي من خلف الباب تسترقُ السّمع للغاية ذاتها ..
تعاني كثيراً لعدم وضوح الصوت القادم من الجمع، فالمتحدّثات نسوة!!
بعد حين،تعودُ العجوز وقد أكرمت وفادة إبنتها بوابلٍ من الروايات المُتضاربة حول طريقة وأسباب موت الشاب،
إلّا أنّ ما بقي عالقاً في ذاكرتها، أنّهم عثروا عليه جُثّة هامدة فوق سطح ذلك النهر،
الذي يمرُّ من تلك المدينة ..
لكنّها كانت تعرف سببَ موته؛ فقد لقي مصيرهُ المُحتّم بهذه الطريقة كغيره ممّن كانوا قد ساروا على خُطاه في أرضها الضائعة ما جعلها تتذكّر خطيبها الذي خطفهُ ذلك النهر منها قبلَ 8 سنوات بنفس الطريقة البشعة ..
عادت لتجلس على أريكتها وهي تنظر بإمعان لفنجانها الفارغ هذه المرّة،
علّها تجدُ طالعاً أفضل لغدها لا يذكّرها بأمسها الأليم ….
وسام الصرخي
المصدر موقع بروال